كورونا في تونس.. أيّ كورونا؟

تونس التي أهدت العالم الربيع العربي وتفاءلت الشعوب المستضعفة بثورتها خذلها العالم مرتين. مرة حين تركها تواجه الأزمة الاقتصادية وحيدة ومرة أخرى حين تركها تواجه الوباء باقتصاد منهك وبنقص باللقاح.
الاثنين 2021/06/28
الموت بالوباء أرحم من الموت جوعا

انظر كيف يعبر التونسي الشارع من طرف إلى آخر، تعرف لماذا ينتشر فايروس كورونا بهذه السرعة المخيفة في البلاد.

تونس، بمستشفياتها الخاصة والحكومية وبمخابرها وتجهيزاتها الطبية استطاعت أن تجذب جيرانها وأيضا الأوروبيين لتلقي العلاج فيها. ولن يستطيع أحد أن يشكك بكفاءة كوادرها الطبية. فهي، إن لم تكن الأفضل عربيا وأفريقيا، هي حتما من بين الأفضل.

إذن، ماذا حصل؟ ولماذا هذا الانتشار السريع للفايروس؟

الأرقام الرسمية تقول إن البلاد دخلت مرحلة “تسونامي” المرض. والتعبير هذا استخدمه عضو اللجنة العلمية في تونس أمان الله المسعدي، قائلا إن الوضع الوبائي “أصبح كارثيا (..) موجة تسونامي كورونا تضرب البلاد. إنها موجة رهيبة، فعدد التحاليل الإيجابية مرتفع للغاية وعدد الوفيات يتجاوز أحيانا المئة يوميا، وأقسام الإنعاش اقتربت من الامتلاء”.

وحسب وزارة الصحة بلغ معدل الوفيات اليومي خلال الأسبوع الفائت 83 وفاة يوميا.. وفاق عدد الوفيات التوقعات.

وتم تسجيل نسبة إنذار مرتفعة تفوق فيها نسب الإصابات 400 حالة لكل مئة ألف ساكن في محافظات زغوان والقيروان وسليانة وباجة كما تم رصد هذه النسب في 28 منطقة في سبع محافظات.

 وتسجل تونس على المستوى الوطني 32 في المئة من الحالات الإيجابية عن مجمل التحاليل المنجزة يوميا للكشف عن الفايروس.

أيضا تم رصد حالات عدوى بالسلالة الهندية للمتحور “دلتا”، فيما تحوم الشكوك حول وجود إصابات بالسلالة البرازيلية.

هناك حديث اليوم عن موجة رابعة من الوباء في محافظة القيروان التي أطلقت نداءات استغاثة، لمطالبة الجيش بتطبيق الإجراءات الاحترازية، بعد أن أظهرت الفحوص أن نسبة الفحوص الإيجابية من بين إجمالي الفحوص بلغت 50 بالمئة.

ودعت اللجنة العملية التي تقدم مقترحاتها للحكومة، إلى تشديد الإجراءات ومن بينها زيادة ساعات حظر التجول الليلي وإغلاق شامل في بعض المحافظات، إضافة إلى منع كل التجمعات الرياضية والسياسية والثقافية.

الرئيس قيس سعيد، إدراكا منه لحجم الكارثة، أمضى أمرا رئاسيا يقضي بإعلان حالة الطوارئ في كامل البلاد حتى يوم 23 يوليو القادم. واعتبر سعيد أن القضية الأساسية في تونس هي قضية اجتماعية واقتصادية.

الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التونسية ستمنع التجمع وستغلق المحلات التجارية وستعلق الأنشطة الثقافية والرياضية ولن يسمح للسكان بالخروج إلا في الحالات القصوى. ولكن تبقى الإجراءات خاصة الالتزام بوضع الكمامة والحفاظ على التباعد الاجتماعي هي الأهم. وهنا تكمن المشكلة.

التونسي بطبعه قدري، لن يصيبه إلا ما كتب له. ويكره إلى جانب ذلك أن ينعت بالخوف. والحكومة من جانبها تقول إنه من غير الممكن أن تفرض عزلا إجباريا على 11 مليون تونسي وتخصيص رجل أمن لكل مواطن.

المعادلة بالنسبة إلى الحكومة حسب رئيس الوزراء هشام المشيشي الذي أعلن عن إصابته بكورونا “هي حماية صحة المواطن.. ولكن كذلك مواصلة الأنشطة الاقتصادية لتتمكن الفئات الاجتماعية المتضررة من المقاومة”. وأيضا لكي يعود الاقتصاد للنهوض من جديد بعد انتهاء الوباء.

إنها معادلة صعبة جدا، لسببين. الأول، هو عدم التزام التونسيون بإجراءات التباعد الاجتماعي. والثاني، الوضع الاقتصادي الصعب الموروث الذي يقيد أيدي الحكومة.

الإعلام العربي والدولي التقط كلمة “تسونامي” ليبرزها متحدثا عن كارثة أصابت البلاد. ونصحت دول أوروبية، صنفت تونس منطقة حمراء، رعاياها بتجنب السفر إلى تونس.

هل تونس التي يتحدث عنها الإعلام، هي نفس تونس التي أعرفها وأعيش فيها منذ سنوات؟

على بعد خطوات من مكان إقامتي، توجد أسواق شعبية؛ سيدي بحري، الحلفاوين، سوق القلالين، الحفصية والسوق المركزي إلى جانب عدد لا يمكن إحصاؤه من المقاهي والمطاعم والحانات، لا يبدو على مرتاديها أنهم سمعوا بكورونا.

الدلالة الوحيدة التي تذكر بالوباء هي أقنعة يضعها عدد قليل على وجوههم بإهمال؛ إكسسوارات لا فائدة منها. وإن حدث واستمعت إلى الأحاديث التي تدور بينهم ستكتشف أن كورونا بالنسبة إليهم “مجرد جائحة”!

ما يحدث اليوم مع وباء كورونا، حدث بالأمس القريب مع وباء الإيدز المعروف في تونس باسمه الفرنسي سيدا.

قبل انطلاق الثورة التونسية بشهر تقريبا في نوفمبر 2010 بلغ عدد المصابين بفايروس نقص المناعة المكتسبة “الإيدز” في تونس 1620، في نفس التاريخ قدم المخرج التونسي توفيق الجبالي مسرحيته “أشطح (ارقص) مع القرد”. تناقش المسرحية في الظاهر وباء الإيدز، ولكن مرض الإيدز يتحول إلى استعارة لوباء أشمل، هو وباء اقتصادي واجتماعي وسياسي ينهش المجتمع التونسي.

هناك من اعتبر المسرحية نبوءة مبكّرة بالثورة التونسية.

بعد عشر سنوات، الوضع الاقتصادي ازداد سوءا، الأسعار تضاعفت والبطالة بين الشباب ارتفعت، ومعها ارتفعت مشاعر الإحباط وعدم الاكتراث، وتحدث البعض عن “جائحة اقتصادية” تضرب البلاد، ليست جائحة كورونا مقارنة معها سوى خلفية. بالنسبة إلى غالبية التونسيين، إن كان لا بد من الموت، فإن الموت بالوباء أرحم من الموت جوعا.

تونس التي أهدت العالم الربيع العربي، وتفاءلت الشعوب بثورتها، خذلها العالم مرتين. مرة حين تركها تواجه الأزمة الاقتصادية وحيدة، بعد أن خرجت من ثورتها مثخنة بالجراح، وبدلا من أن يمدها بالاستثمارات التي وعد بها، طالبها بديون قديمة. ومرة أخرى تركها لتواجه الوباء باقتصاد منهك، وبنقص باللقاح.

قبل أن أنهي كتابة هذا المقال تلقيت اتصالا من صديق مقيم في السويد، لم يستطع أن يخفي قلقه وهو يسألني عن الوضع في تونس، وعن الوباء المستشري فيها.

دون تفكير وجدت نفسي أقول له مستغربا، وأنا أعبر الطريق من طرف إلى آخر لا ألتف يمينا أو يسارا: كورونا في تونس.. أيّ كورونا؟

أعتقد أني نسيت أن أقول لكم كيف يعبر التونسي الطريق.. نعم، تماما كما توقعتم. التونسي يعبر الطريق، كما عبرته أنا، دون أن يلتفت يمينا أو يسارا!

8