"كندا" رواية من الواقعية القذرة تكشف القاع الاجتماعي الأميركي

الأميركي ريتشارد فورد يشكل بلغة مدروسة سفرا ملحميا.
الاثنين 2022/04/18
التذكر ليس سهلا (لوحة للفنانة سارة شمة)

صرح الكاتب الأميركي ريتشارد فورد في حوار سابق معه أنه يكتب للقارئ ولا يكتب لنفسه، إذ يسعى من خلال كتاباته للخوض في ذاكرة أشخاص آخرين لتفكيك أحداث معينة وتقديم صور عن مجتمع كامل عبر شخصيات بسيطة لكنها غير مألوفة. ولا يخرج عن هذا التمشي في روايته “كندا” الصادرة أخيرا في نسختها العربية.

تكتسب رواية “كندا” للروائي ريتشارد فورد الذي يعد من أهم الروائيين الأميركيين الحاليين أهميتها من عوامل عديدة، منها طريقة الكاتب في استخدام اللغة وبناء الشخصيات والأساليب السردية المبتكرة وغير المسبوقة، وهي لا تروي قصة فحسب، بل ترويها ضمن سياق وداخل ثقافة ما، بالتالي إن غوص الرواية نقديا في هذه الثقافة من خلال السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي تتحرك فيه الشخصيات يعد عاملا جوهريا في أهمية رواية ما وقدرتها على التأثير. إن الرواية، بهذا المعنى، قراءة في مصير شخصياتها وللثقافة الأميركية التي أنتجتها.

في هذه الرواية، التي ترجمها الشاعر السوري أسامة إسبر وصدرت أخيرا عن دار خطوط وظلال، نقرأ قصة مأساة عائلية مدمرة يرويها فتى في الخامسة عشرة بطريقة ساحرة تشدك من السطر الأول إلى الأخير.

العمق والسلاسة

تشكل “كندا” سفرا ملحميا بناه فورد بذكاء الروائي المحترف من خلال الراوي ديل بارسونز، والذي كان هو وأخته في الطفولة ضحية قرار طائش من والده بأن يقوم بالسطو على بنك وإشراك الأم في العملية ما أدى إلى اعتقالهما وزجهما في السجن، وزعزعة حياة الطفلين.

الرواية تحكي مأساة عائلية مدمرة يرويها فتى في الخامسة عشرة بطريقة ساحرة تشدك من الأول إلى الأخير

ديل بارسونز يروي القصة بعد مرور وقت طويل، وبعد أن أصبح مدرسا للغة الإنجليزية، وانفصل عن ماضيه، ويعود إليه في محاولة لفهمه ومحاكمته، ويبدأ من أيام الطفولة وحياة العائلة في بلدة أميركية صغيرة، وكان والده قد خدم طيارا في الحرب العالمية الثانية، وأمطر الموت على المدن، إذ كان رامي قنابل، وحين رجع إلى حياة الفقر في الولايات المتحدة، لم يكن أمامه إلا فكرة السطو على بنك، وكان قبل ذلك متورطا في قضايا فساد.

يرى إسبر أن فورد نجح على امتداد 400 صفحة في نسج خيوط رواية واقعية مكتوبة بلغة تتسم بالبساطة والشاعرية والعمق والسلاسة، ورغم أن الرواية تتناول أحداثا مفصلية كالسطو على بنك وقضايا فساد، وجرائم تتعلق بماضي شخص غامض يعمل ديل لديه بعد سجن والديه وهرب أخته، إلا أن فورد لا يركز على الأحداث في حد ذاتها بقدر ما يركز على الآثار التي تتركها والأدوار التي تلعبها في رسم مصير الشخصيات، وهو هنا ناجح ومقنع إلى حد بعيد، وهذا أضاف عمقا للرواية، ذلك أن ديل بارسونز الراوي، بعد أن اجتاز كل المحن وانفصل عنها، وكون موقفا باردا منها إلى حد ما، بدأ يجمع تفاصيل القصة مدخلا القارئ في عالم روائي متكامل العناصر.

تبدأ الأحداث بسرقة البنك والمصير المخيف للطفلين، نقل الابن عن طريق صديقة الأم إلى كندا إلى منطقة حدودية، ليعمل لدى شخص راديكالي غامض، يدعى رملنغر متورط في عملية تفجير وملاحق ويرتكب جريمة ثانية حين يكشف أمره كان ضحيتها هذه المرة المحققان اللذان اكتشفا مكانه. فيما تهرب الأخت إلى كاليفورنيا وتعيش حياة تشرد وتتعاطى المخدرات.

ويشير المترجم إلى أن فورد في هذه الرواية يعود إلى ما يسمى بالواقعية القذرة، والتي تركز على حيوات شخصيات ينتمون إلى القاع الاجتماعي وتتسم حياتهم بالفشل وبالخيارات المتطرفة والنزعات الإجرامية، وينجح في بناء عالم روائي يغوص في العمق الثقافي الأميركي، رابطا أحداث الرواية بالوضع الأميركي العام، مما يكسب الرواية قيمة، خاصة أنك تقرأ من خلالها ثقافة قارة بأكملها ولكن من خلال تصريحات ذكية وإشارات لامعة، وفي تموضع سياقي روائي، ومن خلال شخصيات الرواية.

ويقول الناقد والروائي الأميركي أندريه دوبوس الثالث في مقال له حول رواية “كندا” نشر في النيويورك تايمز إنها “حكاية عما يحدث حين نتجاوز خطوطا معينة ولا نستطيع العودة أبدا. إنها فحْصٌ للقوة العلاجية للذاكرة المصقولة، وعمل أدبيٌّ متقنٌ لأحد أروع كتّابنا الذي هو أحد قمم هذا النوع الأدبي”. ويؤكد أن فورد بذل قصارى جهده في رواية “كندا”، الخارقة للمألوف، والتي هي روايته الأولى منذ صدور روايته “حقائق الموقف” قبل ست سنوات. في هذه الرواية يكتب فورد بوضوح ضمن حدود عواطفه الأعمق وفي نطاق خصائصها، من وجهة نظر فتى في الخامسة عشرة من عمره تخلى عنه والداه، وهو يفعل ذلك بمستوى من الإتقان اللغوي لا يضاهيه فيه إلا قلة، هذا إذا كان هناك من يضاهيه في الأدب الأميركي.

الرواية تعود إلى الواقعية القذرة والتي تركز على حيوات شخصيات القاع الاجتماعي التي تتسم بالفشل والإجرام

ويتابع دوبوس الثالث “تبدأ رواية ‘كندا’ في 1960 في بلدة غريت فولز بمونتانا، وهي بلدة حدودية كتب عنها فورد من قبل في روايته ‘الحياة البرية’ المؤثرة، والتي لم تحصل على حقها من التقدير، الصادرة في 1990، والتي تبدأ كالتالي: في خريف 1960، حين كنت في سن الـ16، وكان أبي عاطلا عن العمل لبعض الوقت، التقت أمي برجل يُدعى وارن ميلر ووقعت في غرامه”. كل ما يتبع ذلك يُروى من وجهة نظر جو برنسون، وهو راو أكبر في السن يعود إلى الماضي، إلى الفتى الذي كانه في سن الـ16 حين فقد التوازن الهش في مركز عائلته.

هذا صوت فاتن، جدي دون أن يكون حاقدا، صادق دون أن يكون استعراضيا، لماح ومتواضع وحكيم لأنه يثق بالأسئلة أكثر مما يثق بالأجوبة. ولكن هذا الصوت، رغم نجاحه، يشحب بالمقارنة مع صوت ديل بارسونز، الشخصية المحورية في رواية “كندا”، وهو راو آخر أكبر في السن يعود إلى الماضي حيث ضاعت حياته في غريت فولز، مونتانا، في 1960. هنا السطور الافتتاحية “سأخبركم أولا عن عملية السطو التي نفّذها والداي، ثم عن الجرائم التي ارتُكبتْ لاحقا. لكنّ عملية السطو هي الحدث الأكثر أهمية، لأنها وضعت حياتي وحياة أختي في المسارين اللذين سلكتاهما في النهاية. ولن يُفهم أيّ شيء بشكل دقيق دون أن يُروى هذا في البداية”.

 ويرى أن الأمر الوحيد الذي يجب فعله هو مواصلة القراءة نظرا إلى الحبكة المشوّقة، ولكن كما هي الحالة غالبا في روايات ريتشارد فورد ما يحدث في الحقيقة في القصة يشعرنا بأنه ثانوي، أو في أحسن الأحوال، مساو للغة نفسها. لكن هذا يمكن أن يسبب مشكلات على يد كاتب أقل موهبة: يشعرك النثر بأنه ممتع، مكتوب لا كي يضيء أي حقائق بل كي يسرّ الكاتب، فتضيع القصة في السيرورة ويُترك القارئ في الخلف. لكن رواية “كندا” مباركةٌ بقوتين جوهريتين في آن واحد معا: قصة مشوقة تسيّرها شخصيات أصيلة ومحققة بشكل كامل، وأسلوب نثريٌّ منجزٌ ومكتمل بحيث تغرينا كلّ جملة بأن نقرأها مرتين أو ثلاثا قبل أن ننتقل إلى التالية.

فوضى الراشدين

تبدأ الرواية بانتقال عائلة بارسونز إلى غريت فولز في 1956، لكن المشكلة تولد في ربيع 1960، حين يُسرّح والد ديل، بيف بارسونز، من سلاح الجو في سن السابعة والثلاثين. يرى بيف غريت فولز “كمكان اعتقد أنه يستطيع أن ينطلق فيه إلى الأمام، حتى دون حياة اجتماعية. قال إنه كان يأمل أن ينضم إلى الماسونيين”، لكنه انضم بدلا من ذلك إلى خط طويل من الرجال الذين يحاولون عبر العصور اكتشاف إلى أين ينتمون.

عمل الأب كتاجر سيارات جديدة، ثم كتاجر سيارات مستعملة، ثم عمل وكيلا عقاريا يبيع المزارع والأراضي. قال إنه سيبدأ وظيفة جديدة في بيع المزارع والأراضي، و”كان هذا شيئا أقر أنه لا يعرف عنه أيّ شيء ولكنه سجّل كي يدرس هذه المهنة في قبو منظمة الجمعية المسيحية للشبان”. في ذلك الوقت ترأس بيف التجارة المحلية في اللحوم المسروقة الأمر الذي قاد في النهاية إلى السطو على بنك، عرفنا عنه في الفقرة الأولى، وكان هذا حدثا كارثيا قادنا إلى أعمق في حياة ديل بارسونز: الشقيق التوأم لبيرنير، ابن نيفا كامبر، وهو فتى مهتم بالشطرنج وتربية النحل ويتطلع إلى الأمام كي يبدأ الثانوية في الخريف.

☚ ضحية قرار طائش (لوحة للفنانة سارة شمة)
 ☚ ضحية قرار طائش (لوحة للفنانة سارة شمة)

لم تكن المجادلات حول نكسون وكينيدي بعيدة، وكان الأمر الحقيقي الوحيد المتواصل هنا هو أن ديل وبيرنير وأمهما لم يشعروا بأنهم ينتمون إلى هذه المدينة. أضف إلى هذا حقيقة أن التوأم يستطيعان قراءة الطقس العاطفي في منزلهما الصغير “استطعتُ، أنا وأختي، أن نفهم بسهولة لماذا انجذبت أمي إلى بيف بارسونز: فقد كان ضخم الجثة، بكتفين كاللوح، وثرثارا ومسلّيا، يريد إلى الأبد أن يسرّ أي شخص يقع في مداه. ولكن لم نعرف أبدا ما الذي جذبه إليها، فهي صغيرة لا يكاد طولها يبلغ خمسة أقدام، وانطوائية وخجولة، وتشعر بالاغتراب وتميل إلى الفن وجميلة فقط حين تبتسم وذكية فقط حين تشعر بأنها مرتاحة بشكل كامل. يُحْسَب له أنه تجاوز اختلافهما الجسدي مركّزا على جوهر الأمور الإنسانية، مما أثار إعجابي حتى ولو لم يكن في مقدور أمي أن تلاحظ ذلك”.

إن صوت ديل هنا (لا يطلق أحكاما، متبصّر ومقتضب وكئيب قليلا، ولكنه مرتاح مع اللغة التي يستخدمها كي يسبر ذاكرته) هو القوة المحورية لهذا الرواية المهمة. إن جملها المصاغة بشكل رائع، وحدها تشدّك إليها ولكنها أيضا تخدم باستمرار قصة عائلة بارسونز “فالعالم لا يفكر عادة بأنَّ للصوص البنوك أطفال، بالرغم من أن كثيرين ينبغي أن يفعلوا هذا. ولكن قصة الأطفال، والتي هي قصتي أنا وأختي، هي لنا كي نفكّر بها مليّا ونتقاسمها ونحكم عليها فيما نعيشها. بعد سنوات، في ما بعد في الجامعة، قرأتُ أن الناقد العظيم رسكين قال إن التأليف هو المؤالفة بين أشياء متنافرة. مما يعني أن المؤلف هو الذي يحدد ما الذي يتماثل مع ماذا، وما يهم أكثر وما الذي ينبغي أن يُرمى جانبا في اندفاع الحياة السريع إلى الأمام”.

نحن محظوظون جدا لأن القصة المتذكرة لديل بارسونز مؤلفة، عبر ريتشارد فورد، من قبل ديل نفسه، والذي هو الآن معلّم في الستينات من عمره. لا يقدم لنا المؤلف فحسب جملا كالدرر مثل “التوتر الأميركي الشمالي من أجل شيء ما آخر”، بل يطلعنا أيضا على تجربة ديل الفتى وتفاصيلها الملموسة مثل وصفه للكوخ الذي جاء كي يعيش فيه في ساسكاتشوان، ضيفا لدى راديكالي معاد للسلطة وكاره للنقابات يدعى آرثر رملنغر “لم يكن هناك مجال لي تقريبا سوى السرير الحديدي الذي أنام عليه وذلك الذي خُصِّص لبيرنير، وغرفة المطبخ ذات الأرضية المحفرة المغطاة بالمشمّع ومصباح سقفيّ واحد باهت، وغاز بعينين أسخّن عليه ماء المضخّة الذي تفوح منه رائحة القار من أجل حمامي المسائي”.

إن غَلْي ديل لماء البئر كي يستحم وبحثه عن مدرسة ومحاولته كي يصنع حياة سوية لنفسه في فوضى خطيرة سببها الراشدون، تولد الأسى العميق والمتعة في آن واحد معا في هذه القصة.

يذكر أن من أعمال فورد الروائية: قطعةٌ من قلبي، الحظ الجيد المطلق، الكاتب الرياضي، روك سبرينغس، حياة وحشية، يوم الاستقلال، رجال مع نساء: ثلاث قصص، حشد من الذنوب، حقائق الموقف. وحصل منها على جائزة فيمينا الفرنسية لأفضل رواية أجنبية، عن رواية كندا، وسام أندرو كارنيغي للتميّز في الرواية، عن رواية كندا، وجائزة بوليتزر عن رواية يوم الاستقلال، جائزة ري للقصة القصيرة، عن إبداعه المتميّز في القصة القصيرة.

12