كمال بومنير: على المفكرين العرب أن ينزلوا إلى الواقع

الباحث وأستاذ التعليم العالي بقسم الفلسفة يقول إن النخبة يمكنها أن تعيد للفلسفة مكانتها.
الجمعة 2020/07/24
آفة التعقيد والتجريد أنهكت الفلسفة

يعد كمال بومنير، أستاذ التعليم العالي بقسم الفلسفة، كلية العلوم الإنسانية، بجامعة الجزائر، من الجزائريين القلائل الذين يولون أهمية كبرى في مؤلفاتهم تأليفا وترجمة للفلسفة التي تكاد تكون شبه منعدمة في مجال النشر. في هذا الحوار مع “العرب” يشرح أسباب ذلك وخلفياته وأبعاد نكوص الفلسفة وانكفاء المشتغلين عليها في زوايا خاصة، ويعطي وجهة نظره الفلسفية في الحراك وعدد من قضايا أخرى.

يزخر منتج الباحث كمال بومنير بالتنوع من التأليف إلى الترجمة، حيث يشتغل بصمت وسكينة منعزلا في ملاذات التأمل المنتج، يصقل العقل ويجعله يبصر وسط الظلام، وبقدر ما يستعيد تلك اللحظة الجميلة بقدر ما يعرف أن رهانات التموقع صعبة وشائكة خاصة في حقل الفلسفة الذي يبدو خافتا في مجمع الفكر إلا أن اهتمامه بالأمر خاضع لاعتبارات عدة.

في حديثه لـ”العرب” يقول بومنير “إنّ اهتمامي بالحقل الفلسفي، واشتغالي بالنظرية النقدية على وجه الخصوص، كان بغرض الإسهام في تأسيس خط نظري نقدي من داخل النظرية النقدية، مستفيدا من جهازها المفاهيمي، ومن مقولاتها وتحاليلها النقدية، ومن مقاربتها للقضايا والإشكاليات الفلسفية المتنوعة، ضمن رؤية كلية ترتكز على ما يسمى بالتحاقل المعرفي، غير أنني – وفي الوقت نفسه – حاولت بقدر الإمكان الابتعاد في أعمالي وكتاباتي ومداخلاتي عن المنطلقات والخلفيات والأبعاد الأيديولوجية الضيقة التي أطرت ووجهت العديد من دراساتنا الفلسفية العربية بصورة سلبية وغير مجدية، في ما يخص قضايانا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ووضعنا الحضاري والتاريخي”.

الفكر النقدي

النظرية النقدية
النظرية النقدية

يعتقد كمال بومنير أنّ أعماله وكتاباته المتخصصة في النظرية النقدية، وفي الفن والجماليات، والتي خصص لها عدة كتب (تأليفا وترجمة) تعتبر إسهاما فلسفيا يضاف إلى إسهامات غيره من الباحثين والأكاديميين العرب الذين سبقوه في هذا المجال. وأمله أن تسد أعماله الفلسفية بعض النقص الذي تعاني منه مكتباتنا العربية من دراسات وأعمال متخصصة في النظرية النقدية أو في حقل الجماليات المعاصرة والفنون الجميلة، وأن تسهم في إثراء وتعميق النقاش الفلسفي الراهن.

ما زال الدرس الفلسفي لم يأخذ مكانه داخل المجتمعات العربية في مجملها، وهي التي تتنكر للعقل في عمومه، وترضخ للتقليد ومسيطر عليها فكر دوغمائي مستكين لا يسأل ولا يثير، وهو وضع يقول عنه بومنير “مترد ومتدهور إلى حد بعيد رغم الجهود المبذولة في العديد من هذه البلدان. والحق أنّ معرفة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذا التردي والتدهور تتطلب الشروع في القيام بدراسات جادة يشرف عليها متخصصون ذوو خبرة في الحقل الفلسفي لمعرفة الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تعثر الدرس الفلسفي، وخاصة في السنوات الأخيرة، بالمقارنة مع وضعه المقبول عموما في الفترات السابقة”.

ويضيف “عديدة هي الأسباب أو العوائق التي تحول دون نجاح الدرس الفلسفي وتقف حاجزا لتحقيق مقاصده التربوية والبيداغوجية والمعرفية، من أبرزها الأفكار المسبقة التي يحملها البعض عن الفلسفة والتفلسف، متأثرين في ذلك بالآراء السائدة في ثقافتنا الاجتماعية التي تنظر، في كثير من الأحيان، إلى الفلسفة نظرة سلبية، مردها آفة التعقيد والتجريد التي تعرفها الفلسفة، وعدم جدواها في سوق العمل، واتهام كل من يدرسها بالكفر والإلحاد والهرطقة، وغيرها”.

 ومن العوائق أيضا وفق بومنير “طرق تدريس مادة الفلسفة الذي أصبح – للأسف الشديد – يغلب عليه طابع التلقين لا التفكير، بحيث يتم استبعاد الطرح الإشكالي والنقدي للموضوعات الفلسفية. لذلك أعتقد أنّ الدرس الفلسفي المؤهل ليأخذ مكانه في المجتمعات العربية عموما، والمجتمع الجزائري خصوصا، هو الدرس الذي يعطي الأولوية للبعد النقدي، بمعناه الواسع، لكونه يحمل وظيفة فلسفية وتاريخية يمكن أن تسهم في نقل هذه المجتمعات من وضعها المنفعل إلى وضعها الفاعل والفعّال على كل المستويات (المعرفية، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، الثقافية، الحضارية) للخروج من وصاية الغير والتبعية للآخر”.

ولعل هذا “ما كان يقصده الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في مقاله الموسوم  بـ’ما الأنوار؟‘، حينما كان بصدد الحديث عن أهمية ممارسة النقد الفلسفي، وهو خروج الإنسان من قصوره وعجزه عن استخدام عقله بعيدا عن وصاية الغير. لذلك كان لزاما على المجتمعات العربية ترسيخ حضور الفكر النقدي الواعي بزمانه الثقافي والحضاري”.

في حديثه عن بوادر بروز نخبة فلسفية عربية يمكنها أن تعيد للفلسفة مكانتها في النسيج العام للفكر، يقر بومنير بصعوبة ذلك في الوقت الراهن، حيث أنّ “بروز نخبة فلسفية عربية وتفعيلها للعمل الفلسفي النقدي في الفضاء العمومي العربي الراهن مسألة جد عويصة ومعقدة ومرتبطة بجملة من الشروط والآليات المعرفية والسياسية التي تسمح بنقل الخطاب الفلسفي إلى خيارات فكرية جديدة”.

وهو ما سيسمح كما يقول بإمكانية أن “تسهم في تحقيق نقلات نوعية ضمن سياقات فضائنا العمومي الاجتماعي والسياسي والثقافي والحضاري، بغية تحقيق حضوره الكوني الدائم ومشاركته الفعالة في النقاشات الدائرة اليوم حول العديد من القضايا والمسائل المطروحة على المستوى الإنساني. لذلك، أعتقد أنه إذا توفرت هذه الشروط والآليات يمكن لهذه النخبة أن تعيد للفلسفة مكانتها في النسيج العام للفكر، ومن ثمة تسجل حضورها في هذا الفضاء”.

الفلسفة والواقع

المدرسة الفلسفية الغربية
المدرسة الفلسفية الغربية

يرى أستاذ الفلسفة أن سؤال تأثير الكثير من المدارس الفكرية الغربية على الكثير من المفكرين ليس بالأمر السهل، وذلك نظرا إلى عدة أسباب أدت كما يقول “إلى ما نسميه ﺑالعودة إلى المدارس الفلسفية الغربية، سواء عن طريق عملية الترجمة ونقل النصوص إلى المجال التداولي العربي، أو على مستوى التطبيق والممارسة، في ما يخص الكثير من المواضيع المتعلقة بالقضايا والمسائل والإشكاليات المعرفية والعملية”.

 ويتابع “لكنني أكتفي هنا بذكر أهمها؛ أعتقد أنه لا يمكننا إنكار الحقيقة التالية: وهي أنّ الفلسفة عرفت تطورا وانتعاشا منذ العصر الحديث في العالم الغربي الذي حقّق إنجازات معرفية هائلة، من حيث التراكم المعرفي الذي كان بمثابة قفزة نوعية في تاريخ الفلسفة، وهو الأمر الذي يتجلى – كما هو معلوم – في تلك الاتجاهات والمذاهب والنظريات التي شهدها الفكر الفلسفي الغربي (العقلانية، التجريبية، المثالية، المادية، الوضعية، النقدية، التاريخانية، إلخ)”.

وواضح كما يؤكد أن “واقعنا العربي – الإسلامي لم يعرف مثل هذه التراكمات المعرفية التي حققها الغرب. لذلك بقي المفكرون العرب في حاجة إلى التفكير في قضاياهم وإنتاج خطاباتهم الفلسفية بالرجوع إلى المدارس الفلسفية الغربية واستلهام اتجاهاتها، كما هو الحال مع العديد من الباحثين العرب المعاصرين الذين تأثروا بهذه المدارس الفلسفية الغربية. ولعل أهم التحديات التي يواجهها هؤلاء الباحثون تتمثل في مدى إمكانية تأسيس فلسفة عربية أصيلة يمكن أن تحقق الإبداع المطلوب”.

ويعتقد بومنير أن الجهد الفكري والفلسفي الذي أنتج خلال هذه السنوات في العالم العربي الإسلامي والذي ما زال حبيس أدراج التنظير والمخابر والجامعات والمعاهد المتخصصة هو مسألة شائكة ويحتاج أيضا، كما يشير إلى “جهد فكري وفلسفي أيضا لفهمه وتفسيره في بلادنا، لأنّ مثل هذه المسائل لا يمكن أن نجيب عنها إلا بواسطة كتاب. ولكن ومع ذلك، أقول بإيجاز شديد، إنّ غياب الفكر الاستراتيجي داخل مؤسساتنا لا يسمح – والحق يقال – بالتفكير الجدي والعملي في وضع آليات تسمح بنقل الجهد الفكري والفلسفي الذي تم إنتاجه في الجامعات والمخابر والمعاهد المنتشرة في كل ربوع الوطن، وبقي في أغلب الأحيان، للأسف الشديد، حبيس رفوف مكتبات الجامعات دون تفعيل وتوظيف على أرض الواقع”.

ويقترح أن ينزل المفكر أو الفيلسوف إلى “أرض الواقع لتفعيل هذا الفكر الاستراتيجي الذي أصبح على قدر كبير من الأهمية في الانتقال من عالم الأفكار إلى عالم الوقائع، وفي دفع حركة الأفكار نحو تطبيقها وممارستها عمليا بغية تحقيق انصهار بين النظرية والممارسة على كل المستويات (السياسية، الاجتماعية، التربوية، الثقافية، إلخ)”.

لا يعتقد كمال بومنير أن الحراك الذي شهدته الجزائر سيحدث نقلة نوعية من أرض إلى أرض، ولا يرى أي دور يمكن للنخب أن تلعبه في تأطير هذه الموجة العارمة، فالحراك كما يشير “يُعتبر منعطفا مهما في تاريخ الجزائر المعاصرة، وفي حياة الشعب الجزائري الذي اختزن كما هائلا من المكبوتات السياسية والاجتماعية والفكرية خلال تحكم وهيمنة منظومة سياسية لم تحسن تدبير شؤون البلاد وعجزت عن ضمان تقدمها وازدهارها.

15