كمال الصليبي.. مؤرخ زلزل المعتقدات الراكدة

مثير للجدل، تجديدي حداثي، مستند إلى الأصالة في بحثه، كمال الصليبي المؤرخ اللبناني، الذي زلزل الحياة الراكدة في المنطقة على ما اعتادت عليه من صراعات، وأعاد تقديم الحقائق من جديد، حين اعتمد علوم الجغرافيا واللغة في تفسيره لما ورد في التوراة عن الأرض المقدسة، أرض الميعاد التي وعد الله بها إبراهيم ذات يوم، وما زال أحفاده يتقاتلون عليها حتى اللحظة رغم مرور آلاف السنين.
ولد الدكتور كمال سليمان الصليبي في بيروت- لبنان العام 1929 ونشأ في قرية بحمدون، ودرس في الجامعة الأميركية في بيروت، ثم في لندن، حيث أعد رسالة الدكتوراه في موضوع “المؤرخون الموارنة وتاريخ لبنان في القرون الوسطى” بإشراف الأستاذ برنارد لويس، ودرّس في الجامعة الأميركية في بيروت من العام 1954 وحتى العام 1997. انتقل الدكتور الصليبي إلى الأردن حيث عُهد إليه تأسيس وإدارة المعهد الملكي للدراسات الدينية، وعينته الإرادة الملكية الأردنية رئيسا مدى الحياة للمعهد، تقديرا لدوره المتواصل الذي بدأه قبل سنوات طويلة بأبحاث أثارت الحوارات الكثيرة وفتحت آفاقا لا حدود لها.
أين جرت أحداث التوراة؟
وجد كمال الصليبي أن ما يقرأ عنه في الكتب المقدسة، لا ينطبق على خارطة الواقع في المنطقة، وفي حين جاءت توصيات علماء اللغات السامية مباركة جهود الصليبي في البحث في كتابه “التوراة جاءت من جزيرة العرب” وقف ضدّه كل من العلماء والمؤرخين اليهود والمسلمين معا، الذين رأوا في كتابه ونظريته تهديدا كبيرا لكل ما آمنوا به طويلا وما ثبت لديهم طبيعة الصراع ونوعيته وأطرافه وأرضه.
“بنو إسرائيل” من شعوب العرب البائدة، أي من شعوب الجاهلية الأولى وتاريخهم مشترك تماما مع بقية العرب من غير اليهود
ومن أمثلة اشتغال الصليبي على جغرافيا التوراة عثوره على كلمة “تهوم” التي وردت في الكتاب المقدس أكثر من ثلاثين مرة، حيث وردت لها عدة تفسيرات متناقضة حسب وقوعها في النص، ولم يخطر ببال المفسرين أبدا أن “تهوم” ما هي إلا “تهامة” كما يفسّرها الصليبي، فتنطبق المسافات والأبعاد والرحلات على الروايات الواردة في القصص.
يقول الصليبي إن العلم قاده إلى القول إن مسرح الأحداث في الكتب المقدسة لم يكن في فلسطين، بل في جنوب الجزيرة العربية، أي من اليمن صعودا إلى الحجاز، وحين تتحدث التوراة عن “مصرايم”، لا يذهب ذهن أحد إلا إلى مصر الحالية، بلاد “القبط”، ويجهل أن مصرايم – مصر في القاموس العربي هي الحاجز والقلعة، مع أن مناطق كثيرة من غرب الجزيرة العربية كانت تعرف باسم”مصرايم” وحين تورد التوراة قصصا عن رحلات ومسافات بين “مصرايم” وغيرها من المناطق، فإن توقيت الرحلات وعدد أيام المسير ينطبقان جغرافيا على “مصرايم” الجزيرة العربية، لا على أرض الأهرامات، ومن ذلك ما بني عليه فيما بعد، من الحديث عن أن نصوص التوراة تتحدث عن “أورشليم” بالتلازم مع ذكر “جبل صهيون”.
أما عن التشابه في الأسماء ما بين مناطق غرب الجزيرة العربية وغيرها من المناطق التي قيل إن الأحداث دارت فيها، فيرجع الصليبي السبب إلى أن التوارتيين “الكنعانيين” هاجروا من الجزيرة العربية إلى بلاد الشام ونقلوا الأسماء معهم مثل صور وسكاكا وصيدا و لبنان وجبيل وأرواد. ومن أدلة ذلك في التاريخ الإسلامي ما قال عبد الله بن مسعود في الحديث الصحيح، “سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبل موسى فأخبرني مكانه، ثم سرت إليه على بعيري يومي وليلتي فأتيت الشجرة فأخذ بعيري من الشجرة فلاكها ولم يستسغها فلفظها” والسؤال..ما هي المنطقة التي تبعد يوما وليلة عن المدينة المنورة أو مكة؟! هل يتوقّع أحدٌ أن تكون في سيناء التي نعرفها حاليا!
أما القدس فهي ليست أورشليم التوراتية والإنجيلية، ومعنى كلمة أورشليم “مغارة النساك” باللغة الآرامية القديمة، وهذه المغارة تقع في رأس جبل وينبع منها ستةُ أنهار، ثلاثة منها تصب في البحر الأحمر وثلاثة تصب في الربع الخالي، ومن هنا جاء الشعار العبراني “نجمة داوود” التي لم يكن لداوود دخل فيها لا من قريب ولا من بعيد، بل هي رمز الخصب والعطاء لأهل تلك المنطقة في جبال السراة وإشارة إلى الأنهار الستة.
كمال الصليبي وحيدا في المشرق
حقق الدكتور كمال الصليبي حضورا كبيرا في العالم، على المستوى العلمي، وهو يؤلف كتبه باللغتين العربية والإنكليزية، ومعظم كتبه بالإنكليزية. يقول الصليبي إن العلماء العرب اعترضوا على نظرياته للأسباب التالية: “أولا، لم آخذ في الاعتبار النظرية السائدة التي تقول إن أحداث التوراة جرت في جغرافية فلسطين كما هو سائد، ولم آخذ بالقراءة التقليدية للتوراة، وهذان هما الاعتراضان الأساسيّان.
ويؤكد الصليبي نظريته عن أرض الميعاد بالقول: “القصص التوراتية تروي أحيانا عن مسير سبعة أيام أو عشرة أيام دون العثور على نقطة ماء، ولا تحتمل جغرافية فلسطين هكذا روايات، بل هي تحتاج إلى جغرافيا أوسع، إذن هناك تشويه لأنه حصر لتاريخ كبير نسبيا في غرفة صغيرة بل بالغة الصغر، وجغرافية هذه القصص التوراتية ترتاح في جغرافيا غرب شبه الجزيرة العربية في مساحة تمتد بعرض 200 كم وطول 600 كم”.
ومن أهم كتب الصليبي كتابه “البحث عن يسوع″ الذي استند فيه إلى القرآن الكريم والإنجيل على حد سواء في فهم شخصية المسيح أو عيسى بن مريم أو يسوع. ويستخلص الصليبي أن هؤلاء لم يكونوا شخصا واحدا، بل إن قصتهم بدأت من جزيرة العرب أيضا ومن نجران. يقول الصليبي: “هذه محاولة للوقوف على الحقيقة التاريخية بشأن يسوع الناصري المعروف بالمسيح، وذلك عن طريق قراءة دقيقة لما تقوله النصوص المقدسة لدى المسيحيين بشأنه.
اللغة العبرية الحديثة اخترعت في المختبرات اللغوية الألمانية في القرن 19، من قبل اليهود الذين أخذوا يفكرون آنذاك في إعادة بناء كيانهم كشعب
من هو المسيح الإسرائيلي؟
بعد السبي البابلي في العام 597 ق.م تقريبا، قضى الملك نبوخذ نصر البابلي على مملكة يهوذا (ويقول الصليبي إنه يؤمن بأنها كانت في سراة عسير، إلى الجنوب من الحجاز)، فقبض على آخر ملوكها، وهو “صدقيا”، وانقطع نسله بقتل أبنائه. ولكن أحد أقاربه يهوياكين كان قد عيّن من قبل نبوخذ نصر ملكا بدلا عن صدقيا.
يسوع الناصري
في وقت ما بين العامين 27 و36 للميلاد، حين كان المدعو بيلاطس البنطي واليا رومانيا على “اليهودية” ظهر في أرض الجليل بفلسطين رجل اسمه يسوع الناصري، من سلالة زربابل ابن شالتيئيل من أحفاد يهوياكين، معلنا عن نفسه بأنه صاحب الحق في أن يكون الملك على إسرائيل.
وما تفيده الأناجيل الأربعة عن سيرة يسوع يضاف إليها ما يقوله الرسول بولس عن شخص يسوع في رسائله الثلاث عشرة الملحقة بالأناجيل، من أن يسوع كان إسرائيليا، وهو لا يعرّفه بأنه كان يهوديا. ويقول بولس إن يسوع كان من نسل داوود، وذلك بطريقة عابرة، دون أي تعليق، ويشير بولس إلى أن يسوع كان في الأصل “غنيّا” ثم “افتقر” من خلال سعيه إلى الخير العام.
ويلاحظ أن بولس لا يتحدث في رسائله عن والد يسوع، ولا يذكر والدته بالاسم في إشارته الوحيدة إليها. ولا يشير إلى أن يسوع ولد من امرأة عذراء. وكما هو الأمر في رسائل بولس، لا توجد أيّة إشارة في إنجيلي مرقس ويوحنا إلى ولادة يسوع من عذراء. أضف إلى ذلك أن الأناجيل جميعها تتفق مع ما يقوله بولس عن كون يسوع سليلا لداوود، بل يسمى في ثلاثة منها “ابن داوود”.
عيسى بن مريم
يقول كمال الصليبي: “عيسى بن مريم، عيسى المذكور في القرآن، كان قد دفن على قمة أحد الجبال في جنوب يثرب “المدينة المنورة”، وظهر ذلك في التاريخ الكلاسيكي، عند الطبري الذي عاش في حدود سنة 900م. ولا أعتقد أن هناك أي سبب يدعو الطبري إلى قول ذلك، لم يحددوا تاريخا، إنما في القصة التي تتحدث عن إيجاد قبر عيسى بن مريم على قمة أحد الجبال جنوب المدينة جاؤوا على ذكر أن الكتابة الواردة عليه هي باللغة الفارسية مما يعني أن الفرس كانوا يسيطرون على المنطقة أيام عيسى بن مريم أي أنه عاش بين سنة 300 و500 قبل الميلاد.
أعاد الصليبي جغرافية تاريخ الشرق القديم بكاملها، إلى منطقة جغرافية تنحصر في عمق لا يزيد عن 200 كم، وامتداد مواز للبحر الأحمر بحوالي 600 كم
توفي كمال الصليبي في خريف العام 2011، وبقيت نظرياته بعد رحيله، تنتظر من يعيد تركيبها من جديد، ويبني عليها أسسا فكريا، تقرأ التاريخ من جديد، وقبل أن يرحل قال عن الربيع العربي: “تحمل الثورات العربية الراهنة، إن صحت تسميتها ثورات، تشابها سطحيا لافتا مع الثورات الأوروبية في 1848، ولكن تحت السطح، هناك اختلافات صارخة، كان هدف الثورات الأوروبية عام 1848 هو استبدال نظام أوروبي قائم بنظام جديد أملا في أن يكون أكثر نجاحا ومرونة، وفي مراقبتي للثورات العربية الحالية، منذ بدايتها وحتى الآن، بعيدا عن تطهير المشاعر الذي تلهمنا به، يبدو لي أنها ما زالت تحتاج إلى العثور على اتجاهاتها، ويجب العثور عليها من خلال مواردها الخاصة، بدلا من استيرادها من أطراف صديقة”.