كل ما تحتاجه "حقيبة خفيفة"

إذا كانت هناك تسمية يمكن أن تصف النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع الألفية الثالثة فهي حتما “عصر الاستهلاك”، حتى بات العيش بتقشف يمثل تحديا لنا جميعا، بعد أن رسّخ فينا مجتمع الوفرة حمى الاستهلاك.
في سبعينات القرن الماضي أثار العالم البريطاني جيمس لوفلوك جدلا واسعا في الأوساط العلمية بطرحه نظرية “غايا” في كتابه “غايا: نظرة جديدة للحياة على الأرض”. واسم غايا مأخوذ من اسم آلهة الأرض اليونانية “غايا”.
الأرض وفق لوفلوك منظومة بيئية واعية وحيّة تتجاوب مع التأثيرات التي تتعرّض لها، وتردّ عليها بما يحافظ على ظروف الحياة على الكوكب.
ومن بين التحذيرات التي أطلقها لوفلوك أن الصحراء ستتقدّم إلى أوروبا خلال العقود الثلاثة القادمة. وإذا أخذنا تقديرات اللجنة الحكومية الدولية حول تغيّر المناخ بعين الاعتبار، فبحلول عام 2040 سيكون كل صيف في أوروبا مماثلا لصيف عام 2023. ليس فقط موت الناس هو المشكلة، بل النباتات التي لن تنمو، ولن تكون زراعة أي غذاء تقريباً في أوروبا ممكنةً.
ومن نبوءات لوفلوك بحلول عام 2040 أن عدد سكان العالم سيكون قد تقلّص بسبب الفيضانات والجفاف والمجاعة، وسيشهد العالم موجات هجرة باتجاه الشمال، ليس فقط من القارة الأفريقية وإنما أيضا من سكّان أوروبا الجنوبية وجنوب شرق آسيا الذين سيقاتلون للوصول إلى دول مثل كندا وبريطانيا.
قد يبدو عام 2040 مبكرا جدا بالنسبة إلى البعض، ولكن السنوات الأخيرة وما صاحبها من قضاء واسع على الأنظمة الإيكولوجية وارتفاع هائل في نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجوّ تؤكد صحة ما ذهب إليه لوفلوك. بل قد لا تكون لدينا فرصة للنجاة بحلول عام 2040.
مستقبل الأرض لم يعد بيد كبار السن الذين تسببوا في المشكلة بنزعتهم الاستهلاكية التي لا تعرف حدودا؛ مستقبل الأرض بيد الشباب ليصلحوا ما أفسده آباؤهم.
هناك بوادر تشير إلى تغير عادات التسوق، ليس فقط بسبب ارتفاع الأسعار وإنما حرصا على كوكب الأرض أيضا؛ حرصا على “غايا”.
“القليل يعني الكثير”، هذا هو شعار تيار آخذ في الانتشار في صفوف الشباب، يعرف باسم “مينماليزم” (Minimalism)، ويترجمه البعض إلى “التقليلية”، يدعو إلى تغيير عاداتنا الاستهلاكية.
قد يبدو المصطلح مألوفا للبعض، خاصة المهتمين بالفن التشكيلي، فهو يشير إلى المدرسة “الاختزالية” التي انتشرت خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي.
وكما في الفن، الاختزال دعوة إلى تبني أسلوب حياة يستغني فيه الفرد عن كل ما هو زائد عن الحاجة لمواجهة النقص الحاد في الموارد الطبيعية.
هناك فيض من صفحات التواصل الاجتماعي المتداولة بين الشباب يدعو أصحابها إلى محاربة النزعة الاستهلاكية، وتبرز أسلوب حياتهم المتسم بالتقليل من استخدام كل شيء (الغذاء وقطع الأثاث والملابس والأحذية والدراجات والكتب القديمة والهدايا وأدوات المطبخ غير الضرورية وأشياء صغيرة غير مستخدمة في الحياة اليومية…، وغير ذلك).
لا غرابة بعد هذا أن نرى التقليليين يرددون مع فريق الروك الألماني “زيلبرموند” أغنية “حقيبة خفيفة”: ذات يوم ستدرك أنك لست بحاجة إلى 99 في المئة من أغراضك.