كلنا أفارقة مهاجرون

على عكس ما يسوق الإعلام الشعبوي الهجرة ليست شرا مستطيرا بل قد تكون حلا لكلا الطرفين فلا توصدوا الأبواب في وجه المهاجرين فقد يبرز يوما من بينهم من يساهم في صنع مجدكم.
الأربعاء 2023/03/01
لا توصدوا الأبواب في وجه المهاجرين

يختلف العلماء حول أمور كثيرة، لكنهم يتفقون على أمر واحد؛ كلنا أفارقة. فأصول البشرية، وفق علماء الأنثروبولوجيا، تعود إلى القارة الأفريقية. وهو ما أكدته جينات مستخلصة من أدوات حجرية قديمة وعظام متحجرة، تم تحليلها على مدى العقود القليلة الماضية.

الإنسان المعاصر هو حفيد مباشر لصيادين وجامعي طعام ظهروا في مكان ما بأفريقيا، ثم انتشروا في أنحاء القارة، قبل أن تغادر مجموعة منهم القارة وتنتشر في أصقاع الدنيا قبل عشرات الآلاف من السنين. وبينما يقول بعض الباحثين إن مهد البشرية جمعاء هو شرق القارة الأفريقية، في إثيوبيا أو كينيا، يقول آخرون إن أوائل البشر ظهروا في جنوب أفريقيا.

ويدعم علماء الآثار وخبراء الأحافير وباحثو علم الوراثة فكرة جديدة تقول إن الإنسان الأول لم يظهر في مكان واحد فقط، ثم انتشر منه، بل تطور على مدى نصف مليون عام عبر القارة الأفريقية، لينتشر بعد ذلك في الأرض. أما من تشبث منهم في مكانه لا يبرحه، فقد تعرض بعد فترة للانقراض.

ظاهرة الهجرة لا تقتصر على الجنس البشري، الأسماك تهاجر، وكذلك تفعل الطيور.. الهجرة وسيلة غريزية للحفاظ على البقاء، وما حدث منذ أن عمر الإنسان الأرض قبل 500 ألف عام، يتكرر حدوثه يوميا، سواء من خلال هجرات شرعية أو غير شرعية للأفراد والجماعات.

◙ على عكس ما يسوق الإعلام الشعبوي، الهجرة ليست شرا مستطيرا، بل قد تكون حلا للطرفين؛ الدول المستقبلة للمهاجرين، والدول المصدرة لهم

لم يتوقف البشر عن الهجرة منذ فجر التاريخ. الغزوات وفق هذا المنظور شكل من أشكال الهجرة الجماعية. ما كان للمغول أن يصلوا أطراف أوروبا الغربية، وما كان لجيش الإسكندر المقدوني أن يصل إلى شمال الهند، وللمسلمين أن يصلوا بلاد الأندلس، وللصليبيين أن يجتاحوا المشرق ويبنوا القلاع لولا هذا النزوع للهجرة.

الهجرة وفق عالم الأنثروبولوجيا النرويجي ثور هايردال أوصلت البحارة الفينيقيين والفراعنة إلى الأميركيتين، قبل أن تطأ الأرض هناك أقدام كريستوف كولومبس بمئات السنين.

تاريخ البشرية في الحقيقة هو تاريخ هجرات ومهاجرين وإن اتخذت الظاهرة تسميات مختلفة، والسبب دائما إما البحث عن مصدر للغذاء أو تجنبا للمخاطر، سواء كان مصدرها البشر أو الطبيعة.

الحروب والصراعات الأهلية والتغيرات البيئية وما ينجم عنها من أزمات اقتصادية عوامل من بين عوامل عديدة أخرى كثيرة تغذي ظاهرة الهجرة وتفاقم أعداد المهاجرين.

في العصر الحديث، دول كثيرة شارك في صناعة مجدها المهاجرون، أبرز هذه الدول الولايات المتحدة التي استقبلت كل الأفاقين والمغامرين ورجال العصابات القادمين إليها من أوروبا ومن آسيا وكوبا، أو شحنوا إليها بالسفن مكبلين بالسلاسل من شواطئ أفريقيا. الملايين من المهاجرين والمستعبدين الذين وصفوا يوما بالرعاع والعبيد، هم من صنع مجد الولايات المتحدة لاحقا.

هل كان لإيطاليا أن تكون مركزا لعصر النهضة لولا السفن التي رست في موانئها محملة بالسلع والتجار والمهاجرين.

وهل كان لعاصمة الأنوار باريس أن تستلم المشعل من إيطاليا أو تسرقه منها لو لم تفتح أبوابها للمهاجرين الذين شاركوا في صنع مجدها الثقافي والفني.

من أخرج ألمانيا من الدمار بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية وأعاد إعمارها سوى المهاجرين.

وتستمد العاصمة البريطانية لندن اليوم أهميتها من تنوع الأعراق، لتتباهى بأنها أهم مدينة كوزموبوليتانية في العالم. وهذا مصدر سحرها وجاذبيتها.

◙ تاريخ البشرية في الحقيقة هو تاريخ هجرات ومهاجرين وإن اتخذت الظاهرة تسميات مختلفة والدافع دائما إما البحث عن مصدر للغذاء أو تجنبا للمخاطر سواء كان مصدرها البشر أو الطبيعة

عندما أشرعت القاهرة أبوابها ونوافذها في وجه المهاجرين امتلأت علما وشعرا وفنا ومسرحا.

وعندما استغل أصحاب النفوس المريضة حدثا عارضا لإشعال الفتنة بين سوريين لاجئين إلى مصر ومصريين، خرج من بين المصريين من يذكر بفضل المهاجرين على أم الدنيا، قائلا “ردوا إليهم ما لهم”، معدّدا قائمة من الأسماء: فايزة أحمد، دار الهلال، جرجي زيدان، سعاد حسني، نجاة الصغيرة، جول جمال، روز اليوسف، يوسف شاهين…

لا توصدوا الأبواب في وجه المهاجرين. غدا يخرج من بين أبنائهم وأحفادهم علماء، وسياسيون، وفنانون يملأون البلاد شعرا وفنا وعلما.

الصين، التي أحاطت نفسها بسور عظيم يحميها من “خطر” الغرباء الأجانب، اكتشفت بعد حين أن الانفتاح على العالم طريقها الوحيد للرخاء والثروة والتطور.

على عكس ما يسوق الإعلام الشعبوي، الهجرة ليست شرا مستطيرا، بل قد تكون حلا للطرفين؛ الدول المستقبلة للمهاجرين، والدول المصدرة لهم. وإن كان من طرف خاسر في النهاية فهي الدول المصدرة التي تتعرض لنزيف في الكفاءات من قبل دول تبحث عن مهاجرين وفق شروطها وحسب الطلب.

أنجح الدول أكثرها انفتاحا، وأفشلها أشدها انغلاقا. لا توصدوا الأبواب في وجه المهاجرين، فقد يبرز يوما من بينهم من يساهم في صنع مجدكم.

التهديد الحقيقي مستقبلا لن يبقى محصورا في بقعة جغرافية. ولا تستغربوا في عالم تزداد فيه سيطرة التكنولوجيا الذكية على مرافق الحياة، أن تصبح الهجرة افتراضية، وفي الاتجاهين؛ إلى خارج الحدود وإلى داخلها.

ولكن، مهما حدث لا تنسوا أننا جميعا نشترك بأصل واحد.. كلنا أفارقة.

 

• اقرأ أيضا: هجري

8