كلمات على الشاطئ دفعت الموسيقار عمار الشريعي إلى قيادة سفينة النغم

عمار الشريعي موسيقار مصري من طينة خاصة، أخذت منه الحياة البصر لكنها منحته بصيرة وحساسية مفرطة للفن والجمال في الحياة، فاستطاع أن يتفوق فيها على مجايليه ويكون مبدعا صعب التكرار، حتى أن شهادات أغلب معاصريه تؤكد عبقريته وريادته إنسانا كان أو فنانا.
القاهرة – “ارمِ نظارتيكَ ما أنتَ أعمى/ إنما نحن جوقة العميان”، كلمات مبصرة قالها نزار قباني في رثاء طه حسين. والحق أنها تنطبق على رجل آخر، هو الموسيقار المصري عمار الشريعي، مع فارق بسيط، أن عمار لم يكن يضع نظارتين.
قبل أيام صدر كتاب جديد في القاهرة للكاتب المصري سعيد الشحات بعنوان “عمار الشريعي.. سيرة ملهمة”، عن دار ريشة للنشر والتوزيع.
يكشف الكتاب تفاصيل خفية من سيرة حياة موسيقار شاء قدره أن يولد كفيفا، وقرر أن يعيش مبصرا، محبا، عاشقا، ناثرًا بذور المحبة والجمال على كل من عاش عصره، ليبقى أثره ويمتد ثمره إلى الأجيال المقبلة.
أوضح الكاتب سعيد الشحات في حديثه لـ”العرب” أن فكرة الكتاب تعود إلى عام 1997، عندما التقى الموسيقار الراحل لأول مرة لإجراء حوار معه، وتعددت بينهما اللقاءات، إدراكا لقيمة عمار، ورغبة في أن يخرج العمل لائقا باسمه ومكانته، وخشية أن يعتريه قصور أو نقص.
في ديسمبر الماضي تفاجأ الشحات باتصال من الناشر المصري حسين عثمان يقترح عليه عمل الكتاب، بعد منشور قديم على فيسبوك أعاد الكاتب نشره في ذكرى وفاة الشريعي، فيقرر بدء العمل في الحال، ويعود إلى أوراقه القديمة بما تحويه من تسجيلات حواراته مع عمار، ويجري لقاءات حية مع عدد من معاصريه، منهم المطرب علي الحجار والشاعر جمال بخيت، إلى جانب الاستناد لكتب ومقالات وحوارات صحفية وعدة برامج تلفزيونية.
حقيقة لا مفر منها
قال سعيد الشحات لـ”العرب” إن عنوان الكتاب “عمار الشريعي.. سيرة ملهمة” لم يرد إلى ذهنه إلا في الفصول الأخيرة، وكانت العناوين المبدئية تدور حول “العبقري عمار الشريعي” أو “عمار الذي رأى”، لكنه عندما اقترب من إتمام العمل وجد العنوان يقفز إلى رأسه أو يهبط أمامه، في ضوء رحلة الكاتب مع الموسيقار على مدى أشهر، ووجد أن الإلهام هو المعنى الكبير الذي يمكن الخروج به من سيرة رجل مبهر لا يتكرر.
وصف الشريعي يوم مولده في مركز سمالوط بمحافظة المنيا (جنوب مصر) في 16 أبريل عام 1948 قائلا للكاتب سعيد الشحات “كان اكتشاف أنني مولود كفيف زلزالا عند أمي، ووجد أبي نفسه أمام حقيقة لا فرار منها، ستبقى طول العمر، فجهز نفسه لرحلة خاصة معي”.
زاد من خصوصية الرحلة وصعوبتها أن عمار كان طفلا شقيا، سريع الحركة، متعبا لكل من حوله، يصر على ممارسة حياته كالأطفال المبصرين، فيسبح في الترع، ويتسلق الأشجار، ويركب الدراجات، ويلعب الكرة، ويقوم بتفكيك جهاز الراديو ويفتحه ليسلم على الفنانة شادية التي ينطلق صوتها منه، باعتبار أنها تجلس داخله لتغني.
في حياة عمار الشريعي قصص كثيرة، صنعت التحدي داخله، لكنه يختار إحداها ويسهب فيها ما يدل على تأثيرها، إذ جلس يوما على شاطئ البحر في الإسكندرية يجري الأطفال حوله ويلعبون، وهو طفل ساكن لا يتحرك، وفي لحظة قرر أن ينزل إلى البحر، لكن سيدة مرت جواره، سمعها وهي تقول “يا عيني عليك يا ابني، يا قلب أمك، يا ترى أمك عاملة إيه”.
وأوضح عمار “كلمات السيدة رنت في أذني، قلبت كياني، وشعرت بألم بالغ، فحدثت نفسي وبكيت، ليه أنا كده، ليه العيال كلها بتجري وتلعب وتنزل البحر وأنا قاعد كده. خلاص حياتك كلها حتبقى كده يا عمار، كل ما يشوفك حد تصعب عليه”.
سمع والده القصة فهونها عليه قائلا “إيه يعني”، ما رأيك أن تثبت لهذه السيدة وغيرها أنك أفضل من المبصرين بأن تريهم قدراتك وتجعلهم يركضون وراءك، فالإنسان بشخصيته وإنجازه. هذا ما حدث بالفعل، فقد انتقل عمار الشريعي من الغوص في أعماق بحر الألم إلى قيادة سفينة النغم، بموسيقاه وألحانه، بفنه وإبداعه، بإحساس رقيق عميق عابر للأجيال.
عايش سعيد الشحات الموسيقار خلال حياته وعلى مدى أشهر في أثناء إعداد الكتاب، فوجد أن سيرته تحمل إلهاما خاصا للمبصرين والمكفوفين معا، بما تمثله من رحلة عنوانها التحدي والرفض لفكرة أن يكون كف البصر عائقا عن ممارسة الحياة، بل النبوغ فيها وبلوغ أعلى درجات المجد، مثلما فعل عمار الشريعي عبر طريقة إدارة مواهبه المتعددة وحياته بالكامل، بما يفرض معرفة سيرة رجل قرر عدم الاستسلام.
في مدرسة المكفوفين تعلم العزف على البيانو والأكورديون والعود، وفي الصف الرابع الابتدائي كان يقرأ ويكتب النوتة الموسقية، وقال عنه الموسيقار كمال الطويل لوالده “ابنك كأنه متخرج في معهد الموسيقى، وحتى خريجو المعهد لا يقدرون على الوقوف أمامه”.
كلية الأفراح الشعبية
يعتبر الفنان علي الحجار في شهادته أن عمار الشريعي كعازف عود في مرتبة أعلى فنيا من محمد القصبجي ورياض السنباطي وفريد الأطرش ونصير شمة ورياض الهمشري، وجميعهم من أفضل “العوادين” بالطبع، لكن عمار أقوى، فأنت لا تسمع معه صوت ضربة الريشة على الوتر.
ويتفق الحجار مع رأي عمار في نفسه بأنه خريج “كلية الأفراح البلدي”، إذ عمل لأربع سنوات عازفا على الأكورديون في فرقة موسيقية تحيي الأفراح الشعبية، موضحا أن عمار في أثناء عملهما معا كان يبحث دوما عن رائحة مصرية للغاية، فهو يتمسك بها قبل الشرقية، ولا بد أن يمنحك موسيقى لها علاقة بطين الأرض، والناس الغلابة، وجوارها شيء آخر يرتبط بأبناء الطبقة العليا.
لم يلتحق عمار بمعهد الموسيقى العربية إرضاءً لأمه التي رفضت احترافه الفن في البداية قبل أن تعود لتشجيعه، فالتحق بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، وكان طالبا مرحا محبوبا من الجميع وليس منطويا أو خجولا.
اعترف عمار في حوار مع الصحافي علي الفاتح بأنه كان صاحب عشرات القصص الغرامية في الكلية، لكن التحدي بدأ معه منذ الشهر الأول، إذ يحاضر كل الأساتذة باللغة الإنجليزية، وكذلك يتحدث الطلاب أنفسهم. وطلب أحد الأساتذة من الطلاب كتابة مقال بها، وجاء تقييم مقال الشريعي بأن فكرته رائعة لكن أسلوبه سيء وضعيف للغاية، لينصحه الأستاذ بالالتحاق بقسم اللغة العربية.
جثمت كلمات الأستاذ على صدره كالحجر، واستفزت فيه روح العناد ومشاغباته القديمة مع الحياة، فصمم أن يكون الأول على دفعته في القسم، ويقوم بمجهود خرافي على مدى ستة أشهر، لم يسمع أو يقرأ خلالها إلا باللغة الإنجليزية. وقبل امتحان نهاية العام، وقف نفس الأستاذ قائلا للطلاب “دون امتحان، أقدم لكم عمار الشريعي، أول الدفعة”.
استرجع علي الفاتح في تصريح لـ”العرب” مشاعره وأفكاره خلال أول حوار له مع عمار الشريعي نشر عام 2000، قائلا “إنه بمجرد دخوله بيته وجلوسه معه لدقائق شعر كأنهما صديقان مقربان منذ سنوات، وتلاشى لديه الشعور بالغربة”، ربما بسبب اشتراكهما معا في الدراسة بمدرسة المكفوفين، في زمنين مختلفين.
لم يركز علي الفاتح اهتمامه على ما ذكره عمار في الحوار عن ركوبه الدراجات ونزوله الترع وإصلاحه بعض الأجهزة بدقة، إذ أن المحاور يعرف الكثير من حكايات المكفوفين وقدراتهم الخاصة، ويقول “نحن المكفوفين نقوم بهذه الأشياء بتلقائية”، لكن ما جذبه بانبهار هو عمار الموسيقار والخصوصية المتفردة لإبداعه.
وأشار الناشر حسين عثمان مدير دار ريشة للنشر إلى أن عمار الشريعي ولد كفيفًا، بخلاف المفكر طه حسين والموسيقار سيد مكاوي، اللذين وُلِدَا مبصرين ثم أصيبا بكف البصر، فهو لم يتعرف على الأشياء ولم يرها، لكنه عبر عن المشاعر والصور والبشر بعبقرية متفردة وإحساس خاص.
مكالمة في الثالثة صباحا
لم يتوصل عمار إلى موسيقى فيلم “البريء”، إنتاج عام 1986 وبطولة أحمد زكي ومحمود عبدالعزيز وممدوح عبدالعليم وإلهام شاهين، إلا بعد ستة أشهر من مشاهدته مع الكاتب وحيد حامد والمخرج عاطف الطيب والمنتج صفوت غطاس، رغم انفعاله الشديد بالفيلم وتأثره به، حتى ظن أنه بمجرد العودة إلى منزله سيضع موسيقى “تكسر الدنيا”، لكن ذهنه لم يأت إلا بجمل موسيقية مكررة وسخيفة وساذجة، على حد وصفه.
وفي إحدى الليالي بعد ستة أشهر شعر بأنه يشاهد موسيقى الفيلم أمامه، ويسمعها بأذنيه، فاتصل بعاطف الطيب الساعة الثالثة صباحًا، وأيقظه طالبا منه حجز الأستوديو في الغد لعمل مكساج الموسيقى، قبل أن يكتبها أساسا. ثم قام بغناء أغنية الفيلم بصوته وتسليمها للطيب على شريط كاسيت، لمساعدة المطرب الذي سيتم اختياره على حفظ اللحن، لكن المفاجأة أن عاطف الطيب وجد صوت الشريعي أكثر إحساسا وتعبيرا، فوضع أغنية الفيلم بصوته.
وكشف الفنان علي الحجار عن احتفاظه بـ”تراكات” تحوي مقاطع صوتية من الغناء المشترك الذي يجمعه بعمار “دويتو”، لأغنية مسلسل “وقال البحر”، لم تخرج إلى النور حتى الآن، قائلا إنه مذهل كمغن، يخلق اللحن، وإحساسه أهم من جماليات الصوت، فطالما هو قادر على توصيل الإحساس والمشاعر يكون أفضل من أي مطرب.
وأشار الصحافي علي الفاتح لـ”العرب” إلى أن الإلهام الذي تلقاه من شخصية عمار الشريعي لم يتعلق بكونه مكفوفا مثله وقدرته على التفرد والنبوغ، إنما الإلهام الحقيقي في موسيقاه وصوته اللذين تبدو حلاوة الإحساس فيهما كأنهما غير بشريين، أو كأن جنّيا يسكن عمار الشريعي ويخرج هذا الإبداع ببساطة، ويقفز فوق الأوتار برشاقة، وتتحول حنجرته عندما يغني إلى آلة موسيقية، تصدر صوتا كأنه قادم في الليل من السماء أو كهف في أعالي الجبال أو محمل بأزهار الربيع، حسب الحالة التي تعبر عنها الأغنية.
وذكر الفاتح أن كف البصر ربما يكون سببا في حساسية إبداعه، موسيقًى وغناءً، بسبب قلة مخزون الصور أو انعدامها لديه، ما يفتح آفاقا رحبة للخيال داخل عقله، مستبعدا فكرة أن يكون العمى دافعا إلى التحدي داخله، لأنه كان سيؤدي إلى خروج إبداعه جميلا، لكن مصنوعا وليس طبيعيا، كممثل جيد يشعر معه المشاهد بأنه يمثل، لكن عمار كان صادقا وتلقائيا في إبداعه، ليس متحديا يريد إثبات قدراته.
وفي مضمار السياسة لم يكن عمار الشريعي من المتحمسين للرئيس الراحل أنور السادات وعصره، بقدر ما كان محبا لسلفه الرئيس جمال عبدالناصر، إلا أن مواقفه من عصر الرئيس الراحل حسني مبارك كثيرا ما تثير الالتباس وتتسبب في ملاحقته بالاتهامات.
وفي هذا السياق رفض الشاعر جمال بخيت اعتبار مشاركة عمار في احتفالات انتصارات أكتوبر نفاقًا للسلطة، موضحا أنه كان يتعامل مع السلطة بوصفها من تملك الأجهزة التي يُعبِّر منها عما يريده من إبداع، بالتالي لم ينتقدها علانية لكن انتقاداته لها كانت عنيفة في الجلسات الخاصة.
كف البصر ربما يكون سببا في حساسية إبداعه موسيقى وغناء بسبب قلة مخزون الصور أو انعدامها لديه
وكشف بخيت أن عمار الشريعي لم يكن مقتنعا بأوبريت “اخترناه” في عهد مبارك، رغم نجاحه الضخم آنذاك، لكنه اشتغل عليه كي لا تغلق الأبواب أمامه، وعبر عن ذلك في جلساته: “قلنا كل ما نريد أن نقوله في ‘البريء’ و’كتيبة الإعدام’ وغيرهما من الأفلام، ولو ركبنا العناد لن نستطيع عمل أشياء كهذه”.
وبعد ثورة 25 يناير 2011 في مصر أجرى الموسيقار الراحل مداخلة شهيرة مع الإعلامية منى الشاذلي في برنامج “العاشرة مساء”، وجه فيها نداء إلى الرئيس الأسبق قائلا “يا مبارك، أنا عمار الشريعي الذي عمل لك ‘اخترناه’ و’اديها كمان حرية’، وشاركت في احتفالات أكتوبر لمدة 12 سنة، أرجوك وأناشدك أن تتنازل عن هذا التعالي. هؤلاء أولادك. ارحم أولادك وارحل”.
وظلت روح عمار تحاوط الكاتب سعيد الشحات خلال فترة العمل في كتابه، حتى عندما يضع رأسه على وسادته قبل نومه، يستعيده فيعيد صياغة عنوان أو جملة، تأتي الكلمات على قدره، ويأتي اجتهاده أقرب إلى الكمال، ولبنة في صرح كتب ودراسات ينبغي أن يتناول كل منها زاوية جديدة في حياته الغنية.
كما كان يأتيه في أحلامه عندما تحضره أغنيته المفضلة “العيون الكواحل” للفنانة فايزة أحمد، مع أنها من تلحين محمد سلطان وليس عمار الشريعي، لكن الغواص في بحر النغم يبدو كأنه يبتسم للكاتب في حلمه، راضيا معجبا، غير غاضب أو معاتب. واختتم سعيد الشحات حديثه لـ”العرب” قائلا “إن عمار كان إنسانا استثنائيا، ليس في موهبته الموسيقية فحسب، إنما أيضا في الحياة التي عاشها دون شعور بأن شيئًا ينقصه”.
وفي السابع من ديسمبر عام 2012 رحل عمار الشريعي، بعد أن ملأ الدنيا بأعذب الألحان وشغل الناس بأبهى الأشجان، ناثرا بذور المحبة والجمال في ربوع الأرض، على تنوع واختلاف البشر، مبصرين أو عميان، مؤكدا بحياته أنه لا فرق، عاملا بكلمات والده التي لم تفارقه: “مش عايزك تكون ضعيف يا عمار”، وهو بالفعل لم يكن ضعيفا أو حانقا أو غاضبا، إنما أراد فقط أن يعبر بسيرته عن حقيقة دامغة يصفها هو قائلا “نحن نحب الحياة ونراها كما ترونها أيها المبصرون”.