كلام في كلام

الثعلب : قل لي أيها الغراب، هل أنت مع الموالاة أم المعارضة… هيّا بسرعة فالوقت لا يحتمل… هيّا.
الغراب : طيّب أنا.. (سقطت قطعة الجبن، التقطها الثعلب ولاذ بالفرار).
الغراب : طيّب… لو قلت مع الموالاة.. أو مع المعارضة… هل كان سيتغيّر شيء… هل تبقى قطعة الجبن في فمي…؟
هذه الحادثة تلخص فكرة غير تلك التي أرادها مبتدعها حول النتيجة الحتمية لاستفتاء الآراء وسبر الأفكار في السياسة والمجتمع من قبل القائمين على العملية في مجملها، بل تشكك في مجرد إبداء الرأي والجهر بالكلام.
هي حكاية روسية من أساسها، وتم سبكها أثناء الحرب الباردة في الفترة السوفييتية للاستهتار بالديمقراطيات الغربية، لكنها تبطن سخرية مرة في شكل نصيحة تقول: إن أردت الحفاظ على لقمة عيشك فالتزم الصمت المطبق ولا تفتح فمك إلا للأكل أو في حضرة طبيب الأسنان.
هكذا تنقلب الأمثال والأقوال المأثورة على نفسها في أغلب الأحيان، وكثيرا ما تتضمن نقيضها من حيث تقصد أو لا تقصد، ذلك أن محاولة اختصار التجربة الإنسانية في حكمة أو مقولة أشبه بترويض مارد في قمقم أو إدخال جمل من ثقب إبرة.
وحتى هذا الأمرـ أي ترويض المارد وإدخال الجمل، صار ممكنا بفضل الذكاء الاصطناعي في أيامنا.
ادعاء الحكمة يبقى مجرد ادعاء للحكمة، منذ كونفوشيوس إلى يوم الناس هذا. وما التجربة البشرية والحياة الفردية إلا بصمة يستحيل تقليدها والنسج على منوالها.
وبالعودة إلى حكاية الغراب والثعلب، فإن طعم قطعة الجبن المغمسة بالذل والسكينة غير ذاك الذي يفوح كرامة وعزة حتى ولو سقط من أفواهنا سهوا أو بفعل مؤامرة ما.
ومهما يكن من أمر فإن لا الثعالب ولا الغربان تأكل الأجبان، ولم تحدث الواقعة أصلا ولا العلاقة بين هذين الحيوانين إلا في رأس لافونتين الصغيرة. ومن ثم نسج على منوالها الروس والأميركان الأكاذيب في حربهم التي لم تكن باردة أصلا بل طالت حممها شعوبا كثيرة على سطح الأرض.
الحكمة أنشوطة بين يدي من يريد السيطرة وترويض وتدجين الناس لرغباته، فلكل مقصد حكاية يجب أن تحاك فتروى، وبأسلوب تشويقي يجعل السامع أسيرا لذلك الوهم.
لا العملية الديمقراطية مؤامرة فاسدة إلى درجة أنها تفقدنا قوت يومنا، ولا هي جنة الحياة الدنيا إلى درجة أننا نختنق في غيابها.. ولا كلامي هذا يُؤخذ على محمل الجد إلى درجة أنك إن لم تقرأه تنام كظيما عليلا.
كل ما في الأمر أننا نتكلم لأننا نتكلم، وإن لم نفعل ذلك فسنفعل شيئا آخر اسمه الصمت.. وساعتها، لن تسقط قطعة الجبن التي ليست موجودة بين أسناننا أصلا.