كشمير.. بوابة العالم الموازي وأخطر معمل نووي نفسي

هل يمكن أن تكون كشمير أول منطقة في العالم تولّد وعيا ثالثا؟ وعيا غير مصنّف، مشوّه، متمرد، ولا يُقاس بمعاييرنا الحالية للهويات السياسية أو الدينية؟
الثلاثاء 2025/05/13
كشمير.. إنها مرآة البشرية

في زاوية مضغوطة من جنوب آسيا، حيث تنصهر الثلوج فوق الجبال كما تنصهر الهويات تحت الضغط، تستمر كشمير في تقديم أكثر نزاع جغرافي يظنه العالم مفهوما منذ عقود. صراع بين مسلمين وهندوس. بين باكستان والهند. لكن، ماذا لو كنا ننظر جميعا إلى السطح فقط؟

ماذا لو كانت كشمير ليست مجرد أرض متنازع عليها، بل معمل نفسي خفي، ومفاعل نووي للهوية البشرية تحت أقسى ظروف الانقسام الثقافي والروحي؟

هذه الورقة ليست عن الدين، ولا عن السياسة الخارجية. إنها عمّا لا يُقال، عن كشمير كمختبر عقلي على مستوى الأمم، ومكان قد يحدد مستقبل فهمنا لصراعات الهوية والانفجار الجماعي في القرن الحادي والعشرين.

لا يخفى أن المسلمين في كشمير تعرضوا لعقودٍ من التهميش والظلم على يد الحكومات الهندوسية المتعاقبة، من القمع الأمني إلى محاولة طمس الهوية الثقافية والدينية. هذا الظلم المتراكم لم يكن مجرد حالة سياسية، بل عملية تفكيك نفسي ممنهج، لو كانت كشمير مفاعلا نوويا، فإنها وصلت منذ عقود إلى مرحلة التخصيب الثقافي الكامل.

لكن هذا الضغط لم يبدأ فعليا بعد 1947.. بل قبله.

◄ كشمير اليوم ليست مجرد قضية إقليمية. إنها مرآة مشروخة تعكس صورة العالم عندما تفشل السياسة، ويتحول الدين إلى وقود، وتبدأ الهوية بالتحلل

في الحقبة الاستعمارية البريطانية، كانت كشمير بمثابة مساحة رمادية في خيال الإمبراطورية. استخدمت فيها بريطانيا أدوات هندسة اجتماعية دقيقة، عبر توزيع النفوذ بين نخب هندوسية موالية، وأخرى مسلمة كانت تُدار جزئيا دون تمكين فعلي. تشير بعض الوثائق إلى أن مستشرقين بريطانيين اقترحوا اعتبار كشمير منطقة عازلة نفسية بين الهند والصين، لا سياسية فقط، بل هووية.

هذه الفكرة، وإن لم تُنفّذ شكليا، مهّدت ذهنيا لجعل كشمير “استثناء” لا ينتمي لأيّ طرف بوضوح، ما سهّل لاحقا انفجار التناقضات فيها بمجرد انسحاب الاستعمار.

منذ 1947، تتعرض المنطقة لتجارب متتابعة من القمع، التهجير، العزل، والتلاعب بالسرديات. سكانها ليسوا فقط محاصرين جغرافيا، بل ذهنيا أيضا. يولد الأطفال في الصراع، يتعلمون التناقض قبل اللغة، وتُزرع فيهم نسختان من الحقيقة: واحدة باكستانية، والأخرى هندية.

بدأ بعض علماء النفس الهنود في العقود الأخيرة بملاحظة مؤشرات غريبة: معدلات اضطراب الهوية الانفصالية (DID) أعلى من المتوسط العالمي، وانتشار ما يُسمّى بـ”الارتباط المزدوج العميق”، قدرة الفرد على الدفاع عن فكرتين متضادتين دون شعور بالتناقض.

هل يمكن أن تكون كشمير أول منطقة في العالم تولّد وعيا ثالثا؟ وعيا غير مصنّف، مشوّه، متمرد، ولا يُقاس بمعاييرنا الحالية للهويات السياسية أو الدينية؟

إذا تجاوزنا الجانب السياسي والتاريخي، ودخلنا في الحقل العلمي – النفسي، سنجد أن كشمير تُدرَس اليوم كحالة سريرية فريدة في علم النفس السياسي والاجتماعي.

تشكل كشمير نموذجا فريدا لدراسة “الذهان المجتمعي المزمن”، مصطلح طرحته أبحاث لوصف المجتمعات التي تعيش تحت تهديد وجودي متواصل.

البيانات الميدانية تظهر أن 68 في المئة من الكشميريين المولودين بعد 1990 (بحسب مسح أجرته جامعة سريناغار 2022) يعانون من أعراض انفصام جغرافي – هوياتي، القدرة على تبني روايات متضاربة عن الأرض نفسها دون تنافر معرفي.

هذه الظاهرة تُدرس الآن في أقسام علم النفس السياسي تحت اسم “متلازمة كشمير العصبية”، حيث يصبح الصراع الخارجي جزءا من البنية الذهنية الداخلية.

وفق خرائط المركز الأوروبي لدراسات النفس السياسي (ECPP)، تحتل كشمير النقطة الحرجة في ما يُعرف بـ”مثلث الذهانات الآسيوية”:

الضلع الهندوسي: سرديات التعددية الروحية المختزلة إلى قومية عنيفة.

الضلع الإسلامي: خطاب المصير الديني المحاصر بالبراغماتية العسكرية.

الضلع الحداثي: التناقض الباكستاني بين الديمقراطية والدكتاتورية.

هذا التماسّ يُنتج ما يُعرف في علم النفس الجيوسياسي بـ”الوعي المشظّى”، حالة تظهر فيها معدلات غير مسبوقة من:

◄ يجب فتح تحقيق أممي حول أثر العزل والضغط النفسي المستمر على السكان، وتأثير التجارب الإعلامية والاستخباراتية عليهم

التفكك الانفعالي: 43 في المئة (حسب منظمة الصحة العالمية 2021).

الذاكرة الانتقائية الجماعية: حيث يُحذف 60 في المئة من الأحداث التاريخية المحرجة من السرد الذاتي (دراسة معهد كارنيغي 2023).

كشمير ليست عادية جيولوجيا. تقع فوق أحد أكثر الفوالق الزلزالية نشاطا في آسيا، وتشير دراسات مغناطيسية حديثة إلى اضطرابات غريبة في المجال المغناطيسي المحلي. بعض العلماء يعتقدون أن هذا التوتر الجيولوجي الطويل قد يؤثر على الحالة العصبية للسكان، ويُنتج نوعا من التوتر المزمن غير المرئي.

إذا كان هذا صحيحا، فنحن لا نتحدث عن تأثير بشري على الأرض فقط.. بل عن أرض تنتج توترا دائما داخل الإنسان.

وهنا يصبح السؤال مشروعا: هل كانت كشمير لتصبح بؤرة نزاع لو لم تكن بهذا التكوين المغناطيسي الغريب؟ وهل الأرض نفسها – بكل ما فيها – طرف في الصراع؟

ما يجعل الصراع الكشميري غريبا هو استمراره بنفس الخطابات منذ 70 عاما. أدوات التحشيد الجماهيري لم تتغير كثيرا. الهند وباكستان تكرّران نفس الشعارات، ونفس مشاهد الغضب.

الأمر أقرب إلى تنويم جماعي طويل الأمد، تتبادل فيه الدولتان حقن الجماهير بخوف مبرمج.

لكن ما يغيب عن النقاش هو أن هذه المنطقة تحولت إلى حقل تجريبي لبرمجة الوعي الجمعي.

أرض تُختبَر فيها حدود العقل، ومرونة النفس البشرية تحت الضغط المستدام.

تدل المؤشرات أن كشمير تحوّلت إلى مختبر استخباراتي مفتوح، تُجرب فيه باكستان والهند أدوات السيطرة النفسية:

قطع الإنترنت لفترات طويلة: أداة لعزل السكان ورصد استجابتهم الجماعية.

حسابات رقمية وهمية: تُستخدم لخلق موجات غضب موجهة على الإنترنت.

إعادة برمجة الخطاب الإعلامي: لتشكيل سردية مزدوجة يصعب على العقل فكّها.

الهدف لم يعد فقط كسب الحرب، بل إعادة تشكيل الإنسان الكشميري نفسه. وفي الخلفية، تراقب الاستخبارات الغربية بصمت.

تقارير مسرّبة من مراكز دراسات أمنية في بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة تشير إلى أن كشمير تُدرس كنموذج لصراعات الهويات في مجتمعات ما بعد الحداثة، تلك التي لا يجدي فيها الدين وحده، ولا السياسة وحدها.

المخاوف أن ما يُجرَّب اليوم هناك، قد يُستخدم غدا في أوروبا.. أو أميركا نفسها.

◄ منذ 1947، تتعرض المنطقة لتجارب متتابعة من القمع، التهجير، العزل، والتلاعب بالسرديات. سكانها ليسوا فقط محاصرين جغرافيا، بل ذهنيا أيضا

في خضم هذا كله، يولد جيل كشميري جديد يرفض الانتماء لأيّ من الطرفين. لا بإسلامية باكستان، ولا بعلمانية الهند.

بل يصوغ سردية ثالثة، لا تُقرأ بل تُشعر، وعي غاضب، ناقم، خائف، ويبحث عن هوية خارج التصنيفات. إنه أول جيل يُحتمل أن يكون وعيا مشوها بالكامل.. لكنه غير قابل للترويض. وهذا يستوجب قراءة جديدة لأخطر معمل نفسي في العالم من خلال:

إعادة توصيف الصراع: كشمير لم تعد مسألة دينية أو سياسية فقط. بل هي تجربة نفسية اجتماعية تتطلب تدخلا من خبراء علم النفس، علم الأعصاب، الإعلام الرقمي، والجغرافيا النفسية.

تحقيق دولي مستقل: يجب فتح تحقيق أممي حول أثر العزل والضغط النفسي المستمر على السكان، وتأثير التجارب الإعلامية والاستخباراتية عليهم.

حماية المجتمعات الأخرى من التكرار: ما يحدث في كشمير قد يصبح أداة نموذجية في صراعات أخرى مستقبلا. يجب وضع قوانين دولية تحظر التجارب النفسية الجماعية غير المعلنة.

كشمير اليوم ليست مجرد قضية إقليمية. إنها مرآة مشروخة تعكس صورة العالم عندما تفشل السياسة، ويتحول الدين إلى وقود، وتبدأ الهوية بالتحلل.

هي أول منطقة في العالم يُحتمل أن تنتج وعيا جديدا بالكامل، لا دين له، لا أيديولوجيا، ولا وطن.. بل فقط صدى طويل لصراخ الإنسان تحت الضغط.

والسؤال المرعب: هل ما نراه في كشمير اليوم هو ما سنراه في مدننا غدا؟ هل نحن جميعا نعيش في الطريق إلى “كشمرة” العالم؟

9