كردستان العراق يقاسم الدولة المركزية أزمتها الخانقة بعد أن شاركها فشلها وفسادها

الفشل العام الذي طبع تجربة الحكم في العراق بعد سنة 2003 لا يستثني إقليم كردستان الذي اختلفت أوضاعه جزئيا ولفترة محدّدة عن أوضاع الدولة المركزية، لكنّه عاد أخيرا ليواجه مثلها تبعات الفساد وسوء التصرف بالموارد، وليغرق معها في أزمة اقتصادية حادّة ذات تبعات اجتماعية وسياسية مؤكّدة.
أربيل (العراق) – عاد إقليم كردستان العراق، الذي اختلفت أوضاعه في أوقات سابقة عن أوضاع الدولة الاتحادية العراقية التي هو جزء منها بفعل استقراره السياسي والأمني، ليلتقي بها أخيرا عند منحى الأزمة الاقتصادية الحادّة الناتجة عن نفس الأسباب لدى الطرفين، من شيوع كبير للفساد وسوء التصرّف بالموارد ومن ارتهان كبير لموارد النفط.
وكما هي الحال في عموم العراق، تساهم الأزمة الاقتصادية وتبعاتها الاجتماعية في تآكل ثقة سكّان الإقليم بالطبقة الحاكمة، وتصعّد درجة الاحتقان في الشارع الذي أظهر في سنوات قليلة سابقة تحفّزه للتظاهر والاحتجاج بعنف على توسّع رقعة الفقر وتردّي الخدمات وتفشي ظاهرة الفساد والسطو على المال العام، وهي أوضاع لم تتحسّن منذ ذلك الحين بل ازدادت سوءا بفعل الأزمة الراهنة.
وأظهر تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية عودة سكان الإقليم الذي يتمتع بحكم ذاتي إلى الاعتماد على الزراعة التي تراجع العمل فيها بعد سقوط نظام صدام حسين في العام 2003، عندما تشكّلت حكومة للإقليم خُصّ بميزانية كبيرة، فتوجه غالبية السكان إلى وظائف الدولة لضمان رواتب شهرية مجزية.
ونقلت الوكالة عن عبدالله حسن وهو مزارع في بلدة مير رستم شمال شرق أربيل قوله إنّها المرة الأولى منذ سنوات التي يقطف فيها العنب من مزارع البلدة التي كانت موردا رئيسيا للعيش إبان فترة الحصار الذي فرض على العراق خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، وانتهى بالغزو الأميركي للبلاد وإسقاط نظام صدام حسين.
ووفقا للبنك الدولي، يواجه العراق هذا العام تدهورا اقتصاديا بسبب اعتماد ميزانية البلاد على صادرات النفط.
وبالنسبة إلى إقليم كردستان العراق الذي يشهد خلافات مستمرة مع حكومة بغداد حول ميزانية الإقليم إثر الانخفاض الحاد في أسعار النفط وتفشي وباء كورونا، أصبح الوضع أكثر صعوبة. ويحذر البنك الدولي من أنّ “نقاط الضعف الموجودة أصلا في العراق قد تؤدي إلى انهيار اقتصادي وموجة جديدة من العنف” في البلاد.
ويرى الخبير الاقتصادي بلال سعيد أن كل ما يحدث من انهيار لاقتصاد كردستان اليوم، سببه عدم اعتماد سلطات الإقليم على نظام اقتصادي قابل للتطبيق من أجل ضمان الازدهار على المدى البعيد.
الأحزاب السياسية المهيمنة على العراق تكافئ الموالين لها بالرواتب وتستخدم عقود المشاريع لإثراء رجال الأعمال المقربين منها
ويقول سعيد لوكالة فرانس برس إنّ “موارد مالية كبيرة تحقّقت لكردستان؛ ميزانية مخصصة من حكومة بغداد وعائدات المنافذ الحدودية مع تركيا وإيران”. ويضيف “لكن، بدلا من استثمارها للبنى التحتية الزراعية والصناعية والصحية والسياحية، ركّزت حكومة الإقليم على تطوير قطاع النفط فقط”. وكما هو الحال مع الحكومة المركزية، أدى توفير الوظائف في القطاع العام مع أن عددا كبيرا منها دون جدوى، إلى حدوث تضخم.
ويوجد اليوم في إقليم كردستان حيث يسكن خمسة ملايين شخص 1.2 مليون موظف حكومي، أربعون في المئة منهم عناصر في الجيش والشرطة. وتكلّف رواتبهم أكثر من 725 مليون دولار شهريا.
ولم تدفع حكومة الإقليم منذ يناير الماضي غير ستة رواتب شهرية لموظفي الدوائر المدنية. وقررت في يونيو الماضي أن تخفّض بنسبة تصل إلى 21 في المئة الرواتب التي تتجاوز 250 دولارا.
ويعني هذا انخفاض فاتورة الرواتب إلى 591 مليون دولار، لكن التراكمات مازالت متواصلة رغم تسلم الإقليم مبلغ 260 مليون دولار من الحكومة المركزية في كل شهر. وأصبحت رواتب الموظفين الحكوميين مشكلة أمام الحكومة المركزية في ظل عدم إقرار الموازنة حتى الآن.
ويتسلم الموظفون المدنيون في حكومتي الإقليم وبغداد، الرواتب منذ سنوات في ظل أزمة اقتصادية متصاعدة، لكن الموارد التي يعتمد عليها البلد أصبحت مهددة بالنفاد، وفقا لمعهد لندن للاقتصاد.
وأشار تقرير صادر عن المعهد إلى أنّ “الأحزاب السياسية المهيمنة على البلاد تكافئ الموالين لها بالرواتب، وتستخدم عقود المشاريع لإثراء رجال الأعمال المقربين منها. وفي المحصلة، أصبحت موازنة الوزارات تُسرق لتحقيق مكاسب حزبية وشخصية”.
ويقول رئيس لجنة الاستثمار في إقليم كردستان محمد شكري “نحن أغنياء عندما يكون سعر النفط مرتفعا وفقراء عندما ينخفض”، مضيفا “أنا لا أسمي هذا اقتصادا صحيا”. ويتابع “من أجل تصحيح ذلك، قامت اللجنة بمنح 60 رخصة لمستثمرين بقيمة 1.5 مليار دولار، غالبيتها في قطاعات الزراعة والصناعة”.
وفي غضون ذلك، تطلق السلطات وعودا بتحسين الأوضاع الاقتصادية وبناء مشاريع كبيرة كالسدود والطرق وسكك الحديد، ودعت المستثمرين الأجانب الى المشاركة في المشاريع.
في هذا الوقت، ينفد صبر الصناعيين المحليين الذين يواجهون منافسة يومية حادة بوجه منتجات تغرق الأسواق تصل من تركيا وإيران، الجارتين اللتين تنخفض عملتهما بشكل متواصل فيما لا يزال الدينار العراقي محافظا على قيمته مقابل الدولار.
ويطالب بارز رسول المستثمر في الزراعة والصناعة وصاحب شركة للحديد يصل إنتاجها إلى خمسين ألف طن شهريا، بفرض “زيادة في الضرائب الجمركية ومراقبة الحدود” للحد من تدفق البضائع الى البلاد، مشيرا الى ضرورة دعم قطاع الزراعة.
ويقول رسول الذي قام قبل فترة قصيرة بتفكيك 50 بيت زراعة زجاجيا “إنتاج الكيلوغرام من الخيار يكلفني 21 سنتا، بينما يباع كيلو الخيار الإيراني أو التركي بـ13 سنتا في أسواق إربيل”.
ولم يصوّت برلمان إقليم كردستان على موازنة منذ 2014. وبالتالي، من المستحيل معرفة عائدات المنافذ الحدودية أو النفط أو الضرائب، ولا حتى كلفة المصاريف.
وكمؤشر على تدهور الوضع الاقتصادي، خاطب رئيس وزراء الإقليم مسرور البارزاني مطلع أكتوبر البرلمان بهذا الخصوص، وذلك للمرة الأولى منذ تشكيل حكومته في يوليو 2019. وأكد أن الدين وصل إلى 28.4 مليار دولار، بينها تسعة مليارات دولار هي قيمة رواتب غير مدفوعة منذ عام 2014.