كرة القدم أفيون الشعوب

صحيح أن سحر اللعبة يخطف الألباب لكن التوظيف السياسي لكرة القدم تجاوز المنطق لدى الأنظمة السياسية المتهالكة وهذا مؤشر على أن اللعبة لم تعد مجرد فرجة ومتعة بل أصبحت مخدرا سياسيا للشعوب.
السبت 2022/01/22
مخدر لإلهاء الشعوب عن مشاكلها الحقيقية

لم تعد كرة القدم مجرد لعبة للفرجة والمتعة، بل تحولت إلى صناعة وتجارة واستثمارات وتسويق، وفوق ذلك هي لدى البعض مخدر لإلهاء الشعوب عن مشاكلها الحقيقية، ولضمان سلم الشارع كي لا تنزعج الأنظمة الحاكمة في مواقعها، ولذلك توفر لها الأموال والعطاءات والتكريمات.

لكرة القدم في الجزائر تاريخ طويل ومثير، لكن مع تحولات متضاربة، ففيما كانت خلال سنوات ثورة التحرير وسيلة لنصرة القضية الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي، بعدما شكلت جبهة التحرير الوطني منتخبها لكرة القدم يحمل ألوان البلاد ويرافع لصالح الثورة في المستطيلات الخضراء، تحولت خلال سنوات ماضية إلى وسيلة لحماية النظام السياسي من ثورة الشارع.

في خمسينات القرن الماضي لبى لاعبون جزائريون ينشطون في فرنسا نداء جبهة التحرير، وفرطوا في استحقاقات كروية عالمية على غرار مونديال السويد عام 1958، ونادي ريال مدريد بالنسبة إلى الراحل مصطفى زيتوني، ولم يستفق الفرنسيون إلا على أخبار فرار جماعي للاعبين جزائريين نحو تونس مرورا ببلدان أوروبية من أجل تشكيل المنتخب الجزائري.

◄ الكثير من المختصين في الجزائر لا يستبعدون بأن النكسة التي مني بها "الخضر” في "كان" الكاميرون وراءها ضغوطات رهيبة وتوظيفات سياسية

لكن في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كادت تندلع حرب بين الجزائر ومصر في مواجهات بين منتخبي البلدين في التصفيات المؤهلة إلى مونديال جنوب أفريقيا عام 2010، ليكتشف لاحقا أن النظامين السياسيين الحاكمين آنذاك هما من كانا يقفان وراء حملة الحشد والأحقاد والضغينة بين الشعبين، فنظام مبارك كان يريد الوصول إلى توريث الحكم عبر بوابة إلهاء المصريين بإنجاز المنتخب، ونظام بوتفليقة كان يريد كسب نقاط مهمة في سلم الشعبية من أجل الاستمرار في السلطة على حساب الدستور القائم آنذاك.

شهادات من محيط المنتخب الجزائري اعترفت مؤخرا أن إيحاء فوقيا وصل إلى المنتخب من أجل رفع الأرجل في مباراة تصفيات أمم أفريقيا التي احتضنتها آنذاك أنغولا، والسماح للمنتخب المصري بالمرور إلى الدور الموالي، وألمحت إلى أن صفقة أبرمت بين النظامين السياسيين لتبادل المكاسب واحتواء الارتدادات، فالجزائر مرت إلى المونديال ومصر توجت بالكأس القارية.

الآن وبعد رحيل النظامين وبعد مرور أكثر من عقد من الزمن على الحادثة، لا أحد من الجزائريين والمصريين يريد العودة إلى تلك الأجواء المشحونة والمسمومة، أو تكرار التجربة، لأنهما اكتشفا أنهما كانا قطيعين سيقا إلى معركة هي أكثر من كرة قدم، وأن الحقيقة هي استغلال للعواطف والشعارات والألوان الوطنية لشحن الجماهير المهووسة باللعبة.

انتهت اللعبة وانتبه الجزائريون والمصريون، وبشكل أدق الجمهور في البلدين، إلى أن الحياة ليس كرة قدم فقط، وإنما انشغالات وأولويات أخرى يتوجب الاهتمام بها، لأن اللعبة لا يمكن أن تكون مخدرا أبديا للعقول ولا بد من صحوة تعيد الناس إلى حقيقة الواقع المر.

ويبدو أن المفعول المذكور لم يعد بتلك الشدة، فقد صرح مواطن جزائري عقب نتيجة إيجابية حققها المنتخب قبل “الكان” الجارية في الكاميرون “صحيح سعيد بالفوز، لكن لست متحمسا كما كنت في السابق، فما الفائدة أن يفوز المنتخب أو ينهزم، وأنا أنهض فجرا لأنضم إلى طابور الحصول على الحليب”.

التصريح بسيط، لكنه يحمل مؤشرا قويا، على أن الاهتمام والحماس والأولويات تراجعت لصالح انشغالات أخرى، وأن انطباعا يتوسع تدريجيا مفاده أنه ليس بكرة القدم وحدها تحيا الشعوب، الناس تسعد للانتصارات لكن إكراهات الواقع أنهكتها، فما معنى الفوز بالنسبة إلى العاطل عن العمل والمحتاج والفقير أو الذي ينام بالتناوب مع أشقائه؟

ولا يستبعد الكثير من المختصين في الجزائر بأن النكسة التي مني بها “الخضر” في “كان” الكاميرون وراءها ضغوطات رهيبة وتوظيفات سياسية لإنجازات المنتخب من طرف السلطة السياسية في البلاد، فلم يعد الرئيس عبدالمجيد تبون ولا قائد أركان الجيش الجنرال سعيد شنقريحة مجرد مشجعين فقط، بل أصبحا مستثمرين في سبيل تحقيق أرقام جديدة في سلّم الشعبية.

منذ “كان” القاهرة 2019، ظهرت بوادر الاستغلال السياسي للمنتخب، حيث وجد اللاعبون حينها أنفسهم أمام ضابط يصافحهم خارج التقاليد والبروتوكول المعهود، وإذ كانت حينها نوايا قيادة المؤسسة العسكرية في الاستحواذ وتصدر المشهد العام خلال ذروة الحراك الشعبي، فإن نفس الاستغلال يستمر الآن مع الرسائل المتكررة لرئيس الدولة وقائد الجيش للمنتخب مع كل مباراة.

◄ لكرة القدم في الجزائر تاريخ طويل ومثير، لكن مع تحولات متضاربة، تحولت خلال سنوات ماضية إلى وسيلة لحماية النظام السياسي من ثورة الشارع

صحيح أن سحر اللعبة يأخذ العقول، لكن التوظيف السياسي للرياضة وكرة القدم تحديدا تجاوز المنطق لدى الكثير من الأنظمة السياسية المتهالكة، فأن يخرج رئيس دولة في خطاب للأمة بمناسبة فوز منتخب بلاده على البطل السابق (الجزائر) فذلك مؤشر على أن اللعبة لم تعد مجرد فرجة ومتعة، بل أصبحت مخدرا سياسيا للشعوب كي لا تنتبه إلى مشاغلها وقضاياها الحقيقية.

أصوات جزائرية تصاعدت على شبكات التواصل الاجتماعي لتتساءل لماذا في كل مرة يعرب كبار مسؤولي الدولة عن وقوفهم وتضامنهم مع المنتخب في كل الظروف، ولم يعبروا عن ذلك تجاه باقي فئات الشعب التي سحقها الفقر والغلاء والبطالة والندرة؟ وهي رسالة واضحة على أن إنجازات المنتخب مهما كانت إيجابية ومفرحة، لا تغطي الواقع الحقيقي الذي يعيشه الجزائريون.

ولعل فشل الحكومات المتعاقبة في تشييد المرافق والهياكل الرياضية التي استهلكت أموالا ضخمة ومر على بعضها 15 عاما دون أن ترى النور، هو إحدى الحجج التي يرفعها هؤلاء في وجه السلطة، لأن نجاح المنتخب يتوجب أن يتوازى مع نجاحات أخرى في مختلف القطاعات وإلا صارت لا معنى لها.

وهو ما ينطبق أيضا على المنتخب، فهو مؤسسة مكونة من أفراد وطاقم، وأن سر نجاحه هو الذي يجب أن يعم جميع مؤسسات الدولة الأخرى، وهو الاستثمار الحقيقي في النجاح، وليس استغلال نتائجه في شراء سلم اجتماعي مزيف، أو تنويم شعب عن قضاياه الحقيقية.

9