كتب صنعتني: بورخيس والجائزة الكبرى

السبت 2016/03/19

سأكتشف، وعطفا على مقالتي السابقة هنا، أن رواية "البؤساء" التي كانت أول كتاب اشتريته في حياتي، وبالتالي أول رواية دسمة قرأتها، ودون أن يقلل ذلك من الأهمية الاستثنائية لتلك الرواية في خارطة الأدب العالمي، أن نمطها ليس مما سيستهويني في قراءاتي اللاحقة.

وأتحدث بشكل رئيسي هنا عن الشكل الفني، وعن الوسائط التي يستخدمها الروائي في رسم شخصياته، وعن الحبكة الإجمالية للعمل، والآلية التي تتمّ عبرها معالجة الزمن وما يرسمه من أخاديد فوق أجسادنا وفي أعماق أرواحنا، وصولا بالطبع، إلى لغة الرواية، ومقدار ما تفصح عنه، ومقدار ما تخفيه.

هذه هي ذات الأشياء التي تجعلني في أيامنا هذه أستمتع، على سبيل المثال، بقصة "ألِفْ" للروائي الرائع بورخيس، بينما أمر مرور الكرام، على رواية "أَلِفْ" للكاتب باولو كوهيلو، صاحب رواية "الخيميائي" ذائعة الصيت. ففي الأولى، وكما أرى، يشتغل الذهن بعناء فيكسب، أما في الثانية فيتسلى قليلا، ثم ينسى.

إذا، ومع مرور الأيام، واتساع القراءات، أفقيّاً وشاقوليّاً، وجدت نفسي، دون أن أتقصّد ذلك، وهي تبحث في الكتابات عما هو أعمق، وأكثر إرهاقا، ووعورة، من الإطناب المبالغ فيه، والذي عولجت من خلاله أحداث رواية "البؤساء"، رغم أنها كانت، وما تزال من كلاسيكيات الرواية العالمية، ولا غنى عن قراءتها، لمن أراد أن يكون كاتبا.

والنمط الكتابي الذي عشقته، كان نمط الروايات التي كتبها دستويفسكي، أو تلك التي كتبها رواد حداثة ما بعد الحرب العالمية الأولى، أمثال: جويس، وفرجينيا وولف، وبروست، وفولكنر، وغيرهم ممن كانت الكتابة بالنسبة إليهم أكثر من مجرد رغبة في سرد حكاية من حكايا العذاب الإنساني.

وبالنسبة إلى هؤلاء، صارت الكتابة السردية، ومعها القراءة بطبيعة الحال، عناء وحفرا في مجهول لا يتكشف لطرفي العملية الإبداعية، الكاتب والقارئ، إلا بعد استنفار كامل المهارات الذهنية والمعرفية. فالأعمال التي كتبها هؤلاء المبدعون كانت، وعلى حد تعبير الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في كتابه الرائع "الزمان والسرد"، بمثابة مشغل مذهل لشتى ضروب التجريب. وحيث تعجز اللغة نفسها عن استكشاف مهاوي الوعي البشري. وذلك كله في إطار إبقاء العين مفتوحة على تقاليد الماضي باعتبارها مصدرا أساسيا لنظام الأشياء.

وهكذا، فقد أخذني من ذكرت من الكتاب، وآخرون ممن لم أذكرهم، ومنذ وقت مبكر من وعيي الأدبي والحياتي، في جولة عميقة ومنهكة، "رحلة ملؤها الصخب والعنف. حتى المقطع الأخير من الزمن المكتوب"، وسط ردهات النفس البشرية وطبقاتها المطوية فوق بعضها البعض.

إنها الجولة التي لم تنته إلى الآن، وحتى لو لم نقرأ أي نتاج جديد. فماتزال كل قراءة ثانية أو ثالثة لأعمال من ذكرت تعد بحصيلة جديدة من الاكتشافات. بشيء كأنك لم تقرأه في قراءتك السابقة. ولسوف تطوح تلك الكشوف بي، نحو جزر موحشة وآثمة، وقصية في قلوب أبطالها وأرواحهم، وبالتالي في قلبي وروحي، أنا قارئ تلك الأعمال. تلك هي جائزتي الكبرى، بعد كل ذلك والعناء.

العناء الذي يرى الكثيرون من أبناء البشر أنهم في غنى عنه.

كاتب من فلسطين مقيم في الإمارات

15