كتاب يقدم رواية جديدة لتاريخ النقد السينمائي في سوريا

ترافق إنتاجات السينما في العالم حركة نقدية، تواكبها وتحلل أفلامها، لتلقي الضوء على مكامن القوة والضعف فيها. ودائما ما ينظر إلى هذا التفاعل النقدي على أنه حراك مفيد، يساهم في فهم الحالة السينمائية بشكل أفضل ويعرف الجمهور العادي بالمتميز والرديء فيها. وكثيرا ما حقق فيلم مجدا عاليا نتيجة احتفاء النقد به. والسينما السورية كما غيرها وجدت وقدمت إنتاجات هامة كثيرة خلال مسيرتها الطويلة فهل رافق ذلك حراك نقدي؟ سؤال كبير كان وما زال حاضرا بقوة. في محاولة للجواب على هذا السؤال صدر كتاب يتضمن دراسة قدمت طروحات جديدة عن الموضوع.
يفاجئ الباحث علي سفر المشهد السينمائي السوري بطرحه موضوعا إشكاليا مباغتا ومزمنا يخص تجربة سينمائية عربية هامة، هي التجربة السينمائية السورية وحال النقد فيها، وهي السينما التي قارب عمرها المئة عام.
يكمن الموضوع في طرح مجموعة من الأسئلة الحارة. أين حدثت مشكلة النقد السينمائي في سوريا؟ هل حدث هذا في واقع السينما السورية ذاته؟ أم أن هناك مشكلة خاصة بالحالة النقدية السورية ذاتها؟ أسئلة قدمها علي سفر في دراسته التي صدرت في كتابه “حبر الشاشات المطفأة، تحري أحوال السينما السورية ونقدها” الصادر عن دار موزاييك للدراسات والنشر في تركيا.
ولادة النقد السينمائي
معروف أن السينما دخلت سوريا من خلال عروض في مدينة حلب في عام 1908، لكن الإنتاج الهاوي وغير المنظم انطلقا فيها بعد حوالي خمس سنوات بمجموعة من الأفلام الوثائقية القصيرة، ثم كانت أول تجربة روائية طويلة في فيلم “المتهم البريء” الذي قدمته شركة حرمون فيلم وأخرجه أيوب بدري. والسؤال الحار الذي كان وما زال موجودا وإشكاليا أين النقد من ذلك؟ هل كان ممكنا حينها أن يكتب أحدهم عن هذه الأفلام مادة تحليلية نقدية وليست ترويجية؟

غاب الجواب طويلا كما تثبت أدبيات ووثائق الحياة السينمائية السورية. لكن علي سفر يباغتنا ثانية عندما يكتب عن لقية نقدية سينمائية وجدها صدفة وهو يبحث في أرشيف صحافي قديم في مجلة الأديب اللبنانية عن أبحاث تخص الإيقاع المسرحي، ليجد مادة كتبها ناقد سينمائي سوري غير معروف، اسمه رفيق الاختيار في عام 1945، تتحدث عن الإيقاع السينمائي. وليجد الباحث أن لرفيق الاختيار ذاته مادة سابقة نشرت في عام 1942 وفي ذات المجلة حملت فكرا نقديا سينمائيا تحت عنوان “السينما والفنون الأخرى”. ويمكن اعتبار هذه المادة النقدية أقدم إشارة على أن روح النقد السينمائي كانت موجودة لدى عدد من المهتمين بفن السينما، مما يمكن له أن يؤسس لحالة نقدية متكاملة ومفيدة، لم تسمح الظروف بالوصول إليها لأسباب حاول الكتاب الإجابة عليها.
ويورد علي سفر مقالي رفيق الاختيار، حيث جاء في مقاله عن الإيقاع في فن السينما أن “السينما في إيقاعها تختلف اختلافا تاما عما عودتنا عليه الموسيقى وما عرفناه في الرقص من انسجام في الحركات وتناسب في النغمات ففيها إذن إيقاع من نوع آخر يجمع بين إيقاع الصور الزيتية الذي هو وليد التناسب، تناسب الأوضاع والألوان في أشكالها وكيفياتها وإيقاع الموسيقى الذي هو وليد النغمات. لهذا يقسم المشتغلون في فن الفيلم الإيقاع إلى قسمين: إيقاع داخلي، وهو إيقاع كل صورة الخاص بها، والإيقاع الخارجي وهو الإيقاع الذي يخلقه تتابع الصور تبعا لوحي الفنان وضرورة الحادث، ونطلق على القسم الأول الإيقاع الجزئي وعلى الآخر الإيقاع الكلي أو العام”.
ويتابع علي سفر في دراسته تشريح واقع النقد السينمائي فيكتب محاولا وضع ضوابط لوضعه في سياقه السوري “لا يمكن التعاطي مع التفكير الملح بالنقد السينمائي في سوريا على أنه ترف فالمسألة التي تكتنفها حالة هذا النشاط النقدي تتعدى مشاكله الخاصة التي يتم الحديث عنها وتبدأ بتعريف المصطلح وتمر بمحددات وفضاء النشاط أي علاقته بمادته: الفيلم السينمائي. وأيضا الثقافة النقدية وضرورات توفرها لدى من يطلق عليهم توصيف النقاد وصولا إلى الممارسة النقدية وضرورات فصلها عن العمل الصحافي السينمائي الذي يتولى الترويج وتقديم الفيلم للجمهور”.

- روح النقد السينمائي كانت موجودة لدى عدد من المهتمين بفن السينما، ما يمكن أن يؤسس لحالة نقدية متكاملة
ويصل سفر إلى نتيجة نهائية لا يمكن ألا ينظر إليها في تاريخ النقد السوري يقول “إن المحصلة النهائية التي لا يمكن العبور فوقها تقول إن المشهد السينمائي السوري لجهة تعاطي النقد والنقاد مع منتجاته ظل محكوما بأزمته المعروفة، أي غياب المنتَج وتعسر الحصول على فضاء سينمائي راسخ في البلاد”.
النادي السينمائي
عن خصوصية النقد السينمائي في سوريا وكيفية تكونه وترسخه من خلال بعض التجارب السينمائية الهامة التي كانت فيها، والفوائد النقدية التي أوجدتها، يوجد الكتاب مساحة تخص تجربة النادي السينمائي في دمشق الذي كان يضم العديد من القامات السينمائية الكبيرة التي ساهمت إلى حد بعيد في تطوير تجربة النقد السينمائي.
يثبت الكتاب ما جاء في العدد 47 من مجلة الحياة السينمائية بقلم المخرج مروان حداد حول محاولة مجموعة من النشطاء فيه إنشاء جمعية خاصة بالنقد السينمائي في سوريا تماشيا مع كيانات عربية موازية تهدف إلى الأمر ذاته. فتنادى للاجتماع ثمانية عشر شخصا وتم انتخاب خمسة منهم ليكونوا نواة هذا الاتحاد وهم: صلاح دهني ونصرالدين البحرة ورفيق الأتاسي وحسان أبوغنيمة ومروان حداد لكن الجمعية لم تتابع الإشهار وتوقفت الفكرة حتى على الصعيد العربي.
كما يورد رأي الناقد الأكاديمي سعيد مراد صاحب كتاب “حوار مع السينما” الذي يبين فيه “النقد السينمائي شأنه شأن أي لون من ألوان النقد الفني هو في جوهره ومرماه حوار معرفي لا يستهدف إقرار حقائق نهائية بل يسعى إلى الإسهام في تناول وتفهم فن السينما بوسيلة الاقتراح والحوار لا بسلاح التقرير وكلما اتسعت حرية الحوار بانت وتعمقت ديمقراطية النقد الأصلية وهذه الطبيعة الديمقراطية للنقد هي التي تجعل من الاقتراح والحوار سبيلا إلى المعرفة”.
وعن دور المجلة الشهيرة “الحياة السينمائية” التي تصدر عن المؤسسة العامة للسينما يكتب علي سفر في كتابه “ستكون مجلة الحياة السينمائية واحدة من أبرز النتاجات التي ظهرت في عالم المتابعة النقدية للسينما في سوريا لجهة كونها متخصصة أولا، ولإمكانية أن تستضيف عددا غير محدود من الفاعلين في هذا المجال على صفحاتها. بالإضافة إلى القضية الأساسية أي الاحتفاء بالفيلم السينمائي وتحليله وتحري السياق الإنتاجي بالإضافة إلى مقاربته مع ما ينتج في فضاءات موازية إن كان على الصعيد العربي أو العالمي”.
غياب النقاد أو الأفلام
يتابع سفر في بحثه عن منابر النقد السينمائي في سوريا، فيكتب عن سلسلة الفن السابع التي تصدر عن المؤسسة العامة للسينما فيقول إن “السؤال الذي يطرح نفسه حيال هذه الإصدرات إنما يقوم حول منهجية ما كانت تحكم صدور هذه الكتب، فإذا كانت سياسة السلسلة تقوم في عقدها الأول على إصدار الكتب المترجمة فهل ثمة شيء من هذا فيما تلى صدور الكتاب العربي والسوري الأول؟”.
ثم يجيب “كانت السلسلة محكومة بالجهود الفردية للمؤلفين وليس بتوجه محدد واضح المعالم لدى القائمين على السلسلة ولهذا فإن البحث عن منهجية ما تحكم الأنساق التي تفرز من خلالها الكتب كلها يبدو ضربا من الخيال فهنا يعثر القارئ على منهجيات وطرائق عمل متعددة وموزعة على عشرات الكتب وليس على منهجية واحدة تضع القارئ والمتابع السينمائي أمام سياسة درسية وتثقيفية محددة”.
وكتاب علي سفر “حبر الشاشات المطفأة” لم يكن عارضا حديثا، بل مشروعا انطلق تحت عنوان عريض “سينما بلا نقاد أم نقاد بلا سينما” منذ ما يزيد عن العشرين عاما، عندما أعد الجزء الأول من البحث في عام 2000 ولم ينشر لأسباب شتى، أما النسخة الثانية منه فكانت في عام 2012 والثالثة في العام الجاري لتتزامن مع الأحداث السورية ووصول السينما السورية إلى ما وصلت إليه، ليستمر البحث من خلاله في طرح السؤال القديم الكبير عن تحري حال السينما السورية وحال النقد فيها.
وقد انطلق الباحث في تقديم التحقيق في نسخته من حقيقة أن السينما السورية عاشت لعقود مرحلة انحسار في الكم الإنتاجي، حتى أن البعض أطلق عليها تسمية “السينما بلا سينما”.
أحداث وآراء
يشابه كتاب “حبر الشاشات المطفأة” العديد من الكتب السينمائية التي توثق للحياة السينمائية في سوريا، لجهة ما تقدمه من معلومات شخصية ورسمية معروفة وأحيانا ليست كذلك عن بعض الأحداث أو الشخصيات التي صنعت تاريخ هذا الفن. هذه الشبكة من الشهادات والمعلومات يمكنها أن تلبي حاجة البحث العلمي التوثيقي بالكثير من الإشارات والأفكار القائمة على الاستنتاج لفهم أو تحليل أمر ما.
وفي كتابه الأحدث “الحياة قصاصات على الجدار” قدم محمد ملص معلومات تخص شخصيات سينمائية فاعلة أثرت في السينما السورية، وما قدمه كتاب حبر الشاشات المطفأة يدخل في إطار تقديم رواية جديدة لتاريخ السينما السورية منذ نشأتها حتى اللحظة الراهنة متضمنا الرواية الرسمية وكذلك المهنية لعدد من السينمائيين، موضحا التيارات السياسية والفنية التي وجدت فيها والنتائج التي وصلت إليها.
يقدم الكتاب في جزء هام منه وجهات نظر عدد من النقاد السينمائيين في سوريا مستعرضا بعض أفكارهم في مقاربة واقع النقد السينمائي في سوريا ماضيا وحاضرا وأسباب ظهوره بالحال الذي هو عليه. ومن ثم يخلص إلى نتيجة نهائية من خلال طرح مفهوم الكتاب بعنوانه الأوسع “سينما بلا نقاد أم نقاد بلا سينما”، ليبين أن الكتاب يحقق خطوات لم يسبق أن وجدت في غيره، منها اشتماله على آراء عدد من النقاد السينمائيين، كما أنه يعيد طرح سؤال كبير وهام منذ زمن وبصيغة جديدة، مستفيدا من مساحات أوسع في تقديم رؤى لا تنظر فقط إلى الإيجابيات وتتغنى بها، بل تفرد جزءا منها لتوجيه نقد إلى النقد السينمائي وحاله الذي كان عليه وما زال.
ويذكر أن الكتاب صدر في 212 صفحة من القطع المتوسط، وأما الباحث علي سفر فهو خريج المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق قسم الدرسات المسرحية (النقد) كتب في الصحافة السورية والعربية منذ الثمانينات وتولى مهاما تحريرية في عدد من الدوريات الثقافية في سوريا كما عمل في التلفزيون السوري معدا ومبرمجا. كتب في الشعر والبحث المسرحي والسينمائي. قدم عددا من الأفلام الوثائقية في سوريا. فاز فيلمه ( مطمورا تحت غبار الآخرين ) بجائزة الإبداع الذهبية كأحسن إخراج في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون 2008، كما صدرت له مجموعة من الدواوين الشعرية منها بلاغة المكان وصمت، كما نشر كتاب سينما على قارعة الطريق في عام 2019.