كبرنا يا صديقي

السبت 2015/10/31

التقدم في السن مرادف للخسارة، وهي زاد مرّ مغمس بالحسرة للذين بدأوا بالفعل رحلة الانحدار الانسيابي إلى هاوية النهاية دون اعتراض، ودمعة ندم ما زالت معلقة على طرف العيون التي كان في طرفها حور في يوم ما. وذلك يوم كانت فيه ماري هوبكنز الشابة الجميلة تجلس على حافة الهاوية وهي ترتدي رداء الماضي وتحاور ذاكرة المرأة العجوز التي تلبستها، خريرا متدفقا من جداول الحزن على، “تلك.. الأيام..”، أغنيتها التي حصدت إعجاب الملايين في أرجاء المعمورة في ستينات القرن الماضي، كانت المغنية البريطانية تقول “لا شيء يبدو كما كان عليه من قبل .. كبرنا يا صديقي ولكننا لم نصبح أكثر حكمة.. لأن الأحلام في قلوبنا ما زالت على حالها..”.

وفي هذا العالم، ما يزال هناك حلم بإمكانية الحلم وما يزال الحالمون يدخرون لنهاية أعمارهم أجمل القصص والحكايات، وحتى نهاياتهم لا تشبه النهايات، إذ لم يحدث أن تمكن هذا العدد الكبير من الناس من الوصول إلى أعمار كبيرة نسبيا، مقارنة بمتوسط أعمار البشر على مدى قرون طويلة، ومع التقدم الكبير الذي طرأ على طرق المعيشة في بعض الدول المتقدمة ووفرة الطعام والشراب النظيف، إضافة إلى القضاء شبه التام على جميع الأمراض المعدية والقاتلة، أصبحت مسألة الشيخوخة أمرا عابرا.

وتحتوي ملفات أبحاث لعلماء الشيخوخة على العديد من الأرقام والإحصاءات التي تؤيد هذا الكلام، حيث ارتفع متوسط العمر من 40 إلى 80 عاما منذ مطلع القرن العشرين (1900)، كما أن عدد سكان الأرض الذين نجحوا حتى الآن في تخطي سن الـ65 قد تضاعف ثلاث مرات.

أما الشائعات التي تناقلها البعض فيما يتعلق بأكبر معمّر على وجه الأرض فكانت كثيرة، واحدة منها أشارت إلى أن رجلا من إثيوبيا نجح في تخطي حاجز الـ160 عاما وهو في كامل قواه العقلية، لكن لا أدلة قطعية ولا مستندات ورقية أو شهود أحياء يؤيدون صحة أقواله.

وبحسب موسوعة غينيس للأرقام القياسية، فإن لقب أقدم معمّر على وجه الأرض يعود رسميا إلى الفرنسية جيان كلامنت التي توفيت في العام 1997 عن 122 عاما. وبعد خمس سنوات على وفاة كلامنت، أقرت المجلة الأميركية للعلوم الأكاديمية بأن متوسط العمر المتوقع في البلدان المتقدمة آخذ في الارتفاع بمعدل 2 إلى 3 سنوات خلال كل عقد (10 سنوات)، ما يعني أن المواليد الجدد أمامهم الكثير من الوقت بواقع زيادة مقدارها ست ساعات مضافة إلى أعمارهم في اليوم الواحد وبهذه المعادلة الحسابية البسيطة، يعتقد أحد علماء الشيخوخة بأن الطفل الذي سيعمّر إلى سن الـ135 قد ولد بالفعل!

وفي الجزء الآخر من الكرة الأرضية العاطل عن الدوران، تعد مثل هذه الفرضيات مثارا لسخرية من تبقى من علماء البشر الذين نجوا بأعجوبة من عمليات الاغتيال والتشريد والتهجير.

ويعلم هؤلاء وزملاؤهم في الدول المدللة، بأن قوانين الموت لا تسمح للناس في بعض الشوارع العربية وضواحيها بالوصول إلى سن الشيخوخة، إذ تتكفل الحروب باختصار دورة حياة الكائنات الحية إلى مرحلتين مستعجلتين؛ الولادة فالموت.

وعدا ذلك، فإن من تتملكه الجرأة وينجح في الوقوف بوجه العاصفة، يحق له بعد ذلك أن يستمتع بشيخوخة مزمنة، وهي مرض نفسي عضّال لا شفاء منه إلا بموت المخرج والمؤلف والممول.

نعم، كبرنا كثيرا يا صديقي، كبرنا أكثر ممّا يجب، ولم تعد الأشياء كما كانت عليه في الماضي، وها نحن نقف باستسلام كإشارات مرور فاشلة في شارع مزدحم بالموتى.

21