كامب ديفيد.. من الشرق الأوسط الكبير إلى صفقة القرن

التفاوض حول صفقة القرن المزعومة التي تطرحها الإدارة الأميركية، يتم على أساس البنود التي نتجت عن حرب 1967، وكأن حرب أكتوبر لم تقع، وكأن آخر المعارك بين إسرائيل والعرب كانت النكسة.
الخميس 2018/09/27
ترامب ضرب بعرض الحائط المطالب الفلسطينية

أربعون عاما كاملة مرت على توقيع معاهدة كامب ديفيد في مثل هذا الشهر من عام 1978، كانت الاتفاقية نقطة تحول مفصلية في السياسة العربية والخارجية لمصر، أدت لتشوهات لا نهاية لها على المستوى السياسي والاقتصادي والفكري، من ثم أوصلتنا كامب ديفيد إلى صفقة القرن الراهنة، بعد أن مرت على مشروع الشرق الأوسط الكبير في تسعينات القرن الماضي.

الاتفاقية كان لها ثلاث محطات فاعلة عبر أعوامها الأربعين. المحطة الأولى كانت الصدمة بالتوقيع وكسر الإرادة وشق صف المقاومة العربية والاعتراف بالاحتلال الصهيوني في السبعينات، وكان أسوأ نتائج هذه المرحلة هو تحول التوجه السياسي في العديد من دول آسيا وأفريقيا للقبول بالصهيونية بعد قطيعة ووصمها بالعنصرية والإرهاب، ثم تغلغل الصهيونية داخل القارة السمراء حتى وصل نفوذها لمداه.

والمحطة الثانية في تاريخ كامب ديفيد كانت تمرير الهزيمة والانكسار بسقوط الشرق العربي وظهور اتفاقية أوسلو في تسعينات القرن الماضي بعد ضرب العراق، وهي الاتفاقية التي كان مشروعها الأساسي اقتصاديا قائما على فكرة الشرق الأوسط الكبير، الذي عاصمته وقلبه النابض إسرائيل، لكن الصهيونية نفسها رفضت المشروع ووهم السلام مقابل التنازل عن الأرض، وذلك باغتيال رئيس وزراء إسرائيل، شريك الولايات المتحدة في الترويج لاتفاقية أوسلو، إسحاق رابين.

أما المحطة الثالثة لكامب ديفيد، فكانت صفقة القرن في نهايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، التي نعايش تفاصيلها الآن، حيث طرقت الولايات المتحدة على الحديد وهو ساخن، واستغلت حالة الجزر الشعبي العربي بعد المد وأحلام التغيير في ثورات مطلع هذا العقد، لتستكمل مسار الخطوة السابقة في التسعينات، محاولة فرض كل شروط الهزيمة والاستسلام دفعة واحدة، وفي ظل ارتباك إقليمي عربي لم تشهده المنطقة منذ بدايات القرن الماضي، وذلك بإلغاء حق العودة لفلسطينيي المهجر، وإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، وطرح مشروع “الترانسفير” أو تهجير الفلسطينيين لإقامة شبه دولة في سيناء المصرية.

ما بدأ بكامب ديفيد انتهى بصفقة القرن، فقد مسحت الاتفاقية أثر حرب أكتوبر 1973 من ميزان القوة العربية تماما، وكانت مثلما أرادت لها الولايات المتحدة، فنزعت أقوى أوراق العرب من الصراع وهي مصر، فمنذ اللحظة التي وقعت فيها مصر على الاتفاقية وتغيرت عقيدتها تجاه الصهيونية ودولة إسرائيل، تجمدت عندها كافة المطالب العربية التي نشأت في أعقاب حرب 1967.

المدقق في الأمر سيجد أن التفاوض حاليا في صفقة القرن المزعومة التي تطرحها الإدارة الأميركية الحالية، يتم على أساس البنود التي نتجت عن حرب النكسة في يونيو عام 1967، وكأن حرب أكتوبر لم تقع، وكأن آخر المعارك بين إسرائيل والعرب كانت النكسة.

تأتي صفقة القرن لتؤكد على الهزيمة القاسية ونتائجها، متجاهلة كل ذلك، وكأن حرب أكتوبر لم تحدث وكأن كامب ديفيد أنضجت ثمارها بنجاح وبراعة

المدهش في الاستراتيجية الأميركية والصهيونية إزاء صفقة القرن هو تفريغ كافة المطالب العربية الفلسطينية التي كانت مطروحة منذ الستينات من مضمونها. فقد أدت الحرب إلى احتلال إسرائيل لسيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان، والشروع في الاستيطان بالقدس الشرقية والضفة. وكانت مطالب الفلسطينيين، ومازالت، العودة لحدود ما قبل 1967، القدس الشرقية عاصمة لفلسطين، دولة في القطاع والضفة، إيقاف الاستيطان وتفكيكه في أرض الضفة، والحق في عودة المُهجرين الفلسطينيين، وسلطات ومؤسسات دولة كالمتعارف عليها.

حيث تأتي صفقة القرن لتؤكد على الهزيمة القاسية ونتائجها، متجاهلة كل ذلك، وكأن حرب أكتوبر لم تحدث وكأن كامب ديفيد أنضجت ثمارها بنجاح وبراعة، فالرئيس الأميركي دونالد ترامب، أقر بالقدس الكاملة عاصمة لإسرائيل وبالتالي ضرب بعرض الحائط المطالب الفلسطينية تجاه المستوطنات في القدس الشرقية، وسيطرة الفلسطينيين على المدينة المقدسة كعاصمة مفترضة للدولة الفلسطينية المقترحة.

واتخذ خطوات تجاه ملف المُهجرين أو اللاجئين الفلسطينيين، توضح نيته في تصفية فكرة حق العودة، واستبدال ذلك بحزمة من المساعدات المادية والاقتصادية لهم وللدول التي يتواجدون فيها، على سبيل التعويض. وبالطبع لم يتطرق ترامب وإدارته إلى ملف المستوطنات الإسرائيلية في الضفة لا من قريب ولا من بعيد، في مباركة واضحة لعمليات الاستيطان التي أقيمت منذ حرب عام 1967 وحتى الآن.

أما الدولة الفلسطينية المقترحة وفق التسريبات المتعلقة بصفقة القرن المزعومة، فتتلخص في مجموعة من المساعدات الاقتصادية والإنسانية، فلا حديث عن حدود لها أو سلطات معينة، مع اقتراح عاصمة بديلة للقدس، ففي واقع الأمر تطرح صفقة القرن المزعومة شكلا لدولة بلا دولة تقريبا.

إذن ما الذي بقي من مطالب الفلسطينيين القائمة منذ حرب عام 1967 ليتفاوضوا عليه؟ وكأننا في فجوة زمنية أو ثقب أسود اسمه كامب ديفيد، خرجنا منه لنعود لنقطة البداية حيث تستكمل إسرائيل انتصارها في 1967 وتؤكد عليه، وكل ذلك يرجع للاتفاقية وتحييد مصر أقوى الأوراق من المعادلة العربية.

أما الجولان فحدث ولا حرج، هناك حالة صمت تام عنها في الصفقة الأميركية المزعومة، وكأن كل ما فعلته كامب ديفيد كان استبعاد سيناء بعودتها للمصريين، مع بقاء كافة نتائج حرب 1967 كما هي، لنصل في اتفاقية القرن المزعومة لمرحلة فرض نتائج حرب النكسة بقوة الهيمنة والتجبر على العرب والفلسطينيين.

وتظل كامب ديفيد عامل كبح لطموح الإدارة السياسية المصرية أيا كانت، وعائقا أمام عودتها لحاضنتها الطبيعية، ويظل أفضل الخيارات السياسية المتعارف عليها هو تجميد الموقف وتثبيت أركانه مرحليا، ثم الانتقال لمرحلة توسيع النفوذ تدريجيا والتخلص من الاعتماد على المساعدات الأميركية، وكذلك التحرك بعيدا عن المؤسسات الأممية التي تستخدمها الولايات المتحدة كوسيلة للضغط والمناورة وتفكيك الأمم، مثل صندوق النقد الدولي.

وتظل الكفاءة الاقتصادية والاستقلال الثقافي هما السبيل للخروج الحقيقي من مرحلة كامب ديفيد. الكفاءة الاقتصادية عن طريق التنمية المتكاملة والمستدامة من خلال مجتمعات جديدة ترتبط بتفعيل الموارد الطبيعية لكل منطقة جغرافية مصرية، والتوسع العمراني عن طريق هذه الفكرة، وليس عن طريق الاستثمار العقاري المجرد غير المرتبط بتفعيل الموارد. والاستقلال الثقافي يقوم على استعادة الذات المصرية لتراثها التاريخي وتوظيفه لبناء نمط حضاري خاص بالشخصية المصرية، يجعلها تسترجع اعتزازها بنفسها وإيمانها بروح الجماعة المصرية مجددا، وتتجاوز ارتباك الفترة الطويلة التي تلت كامب ديفيد وتبعاتها.

تملك مصر الفرصة السانحة لاستعادة مكانتها التاريخية؛ عن طريق السعي لبناء دولة قوية تعتمد على الكفاءة الاقتصادية والاستقلال الثقافي، تمد الجذور ثانية لمحيطها العربي وتشارك في استشراف النظام العالمي الجديد.

8