كافكا البرتغال خليفة ساراماغو الذي يجهله القراء العرب

غونزالو م. تافاريس: الكتابة إيقاظ للقارئ وليست مدعاة لاسترخائه.
الجمعة 2024/04/12
أنا ككاتب أحدد ما أقوم به وأحيانا أتجاوزه

بين الكتابة والنشر علاقات مختلفة فيها الشد والجذب وفيها التكامل والتنافر، لكن الكتّاب يوقنون بأن الكتابة والتأليف شيء والنشر شيء مختلف تماما، ومن هنا فإن بعضهم يتسرع في البحث عن ناشر لنصه، بينما يخير آخرون التمهل عندما يواصلون تجربة الكتابة، ومن هؤلاء الروائي البرتغالي غونزالو م. تافاريس.

وسط مشهد من الركام والهياكل العظمية البشرية والدمار والعجز الاجتماعي والنفسي المطلق تقريبا، الذي خلفته الحرب العالمية الثانية في أوروبا، تتجول فتاة ورجل بين أنقاض الخراب، الفتاة حنة، عمرها أربعة عشر عاما، تعاني من مرض خلقي وتبحث عن والدها؛ الرجل هو ماريوش، وهو رجل غامض يبدو أنه يختبئ من ماضيه. يلعب هذا الثنائي غير المتوقع دور البطولة في رواية “فتاة تائهة في القرن العشرين” للروائي البرتغالي غونزالو م. تافاريس.

تبحث حنة عن والدها من دون حماية، وتعاني من صعوبات في التواصل، تحمل صندوقا مليئا بالبطاقات التي تحتوي على نوع من الدورة التدريبية والأنشطة والأسئلة الخاصة بتعليم الأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية، ومن بينها تطرح سؤالا حول ماهية الإنسان – فالعديد من أهداف التعلم صعبة. وينتهي بها الأمر مع ماريوس في فندق غريب في برلين: الغرف ليست لها أرقام، ولكنها تحمل أسماء معسكرات الاعتقال التي كانت، قبل فترة ليست طويلة، مسرحا للجحيم لملايين المعتقلين. وعندما سأل ماريوش عن سبب قيام إدارة الفندق بذلك، يجيب صاحب الفندق: “لأننا نستطيع ذلك.. نحن يهود”.

رواية مؤثرة

c

تأخذ هذه الرواية، التي ترجمها محمد صبري عبدالفتاح وراجعها وقدم لها عبدالهادي سعدون وصدرت عن دار الرافدين، ملامح شبحية وساخرة نموذجية، وخلافا لتقاليد هذا النوع الأدبي، يبني تافاريس صورة مجردة ومؤثرة ومؤلمة في الوقت نفسه عن ضحايا الحرب الحقيقيين: العاديون من الناس، أولئك الأكثر هشاشة، الذين يجدون أنفسهم فجأة على هامش كل الأحداث. هناك شيء من الغموض المحسوب في جميع أنحاء الرواية بأكملها، لكن الجرأة ليست ذريعة للألعاب الشكلية العقيمة. ببراعة، يقدم الكاتب حياة شخصياته بكثافة وتعاطف، وذوق لا ينضب، لالتقاط أكثر التفاصيل غير المتوقعة في حياة كل فرد.

يكتب عبدالهادي سعدون في مقدمته تجليات الرواية ورؤى الروائي الذي يطلق عليه “كافكا البرتغالي”، يقول “هنا رواية مهمة أخرى من أعمال الكاتب البرتغالي غونزالو م. تافاريس، وهو الروائي الذي تم التعريف به في عالمنا العربي بشكل متأخر، على الرغم من أن كتبه مترجمة للغات العالم أجمع، والكثير من النقاد يشيرون له كونه خليفة الروائي العظيم جوسيه ساراماغو، وساراماغو نفسه تنبأ بذلك ذات يوم”.

ويضيف “الرواية التي تترجم اليوم على يد مترجم شاب مقتدر هو محمد صبري، تجيء تتويجا لجهد الروائي على مدى سنين طوال، وهي من أواخر نتاجاته الأدبية الروائية بعد عمله الطويل ‘الحي‘ المتشكل من روايات قصيرة، وأيضا عمله القصصي ‘حكايات مزيفة‘ الذي ترجمناه مؤخرا وصدر عن دارالرافدين وعمله الحكائي غير المصنف ‘الشيوخ يرغبون بالعيش أيضا'”.

ويبين أن رواية “فتاة تائهة في القرن العشرين”، والتي تترجم من الإسبانية هنا، في نصها البرتغالي لها تكملة هي “فتاة تائهة في القرن العشرين وتبحث عن أبيها”، وكل الرواية تدور حول تلك البنت الصغيرة الكتومة الغريبة في بحثها عن آثار أبيها في أزمنة الحروب والمتاهات البشرية المغرضة. الشخوص الدالة فيها تحاول قدر الإمكان تبيان آثار النفس البشرية في أزمنة القسوة والدمار والحروب المهلكة. تقريبا كل تلك الشخصيات ـ سواء تعاطفنا معها أم لا ـ سنجد فيها بضعة منا متناثرة هنا وهناك. الأرواح البشرية متشابهة في مرحها وفي قسوتها. هذا الجهد الروائي سيكون عينا مضيئة للإشارة إلى أخطائنا المريعة في أزمنة ليست بعيدة عنا، بل تنتمي لنا وننتمي لها، ولم يمر عليها الكثير، نعني به القرن العشرين المنصرم.

ويضيف “كنت قد التقيت بغونزالو في معرض كتاب مدينة صوريا الإسبانية أخيرا، وهو برأيي الروائي الأهم في أوربا والبرتغال، وقد كانت مناسبة للاستماع لآرائه في الكتابة والرواية والبرتغال والهموم الإنسانية. على الرغم من أن روايات عديدة له قد ترجمت إلى العربية، ولكن غونزالو مازال مجهولا لدى القارئ العربي، بل وأجزم أيضا لدى كتاب الرواية العرب الذين لم يتعرفوا على الرواية البرتغالية إلا من خلال الكبير وصاحب نوبل جوزيه ساراماغو”.

ويتابع “ساراماغو نفسه قال كلمته الشهيرة عن تافاريس في مناسبة الاحتفاء بالأدب البرتغالي الجديد: ‘أؤكد لكم أن تارفاريس سيحصل في يوم من الأيام على جائزة نوبل للآداب، ولكن المؤسف أنني لن أكون حيا كي أصافحه وأهنئه بالمناسبة‘. لقد رحل ساراماغو عن عالمنا، والآن ننتظر أن نرى اسمه متوجا الجائزة النوبلية عن استحقاق. ولكن حتى ذلك الحين، لقد تركت رواياته العديدة وماتزال الأثر الأكبر على عمق والكتابة في النفس البشرية وشروع عوالمها في التأثير والتغيير في طبيعتنا وذائقتنا ورؤيتنا عن العالم سواء بصورة متفائلة أو متشائمة. كل هذا جعل نقاد أوربا والعالم يعدونه من ضمن أفضل عشرة روائيين في الألفية الثالثة”.

تجربة أدبية

في روايته يبني تافاريس صورة مجردة ومؤلمة في الوقت نفسه عن الضحايا الحقيقيين للحرب

يبين سعدون أنه رغم خزين الكاتب الهائل في الكتابة والنشر منذ عام 2002 وهو العام الذي بدأ فيه النشر، إلا أنه متأن جدا في مسألة النشر، ويقول إنه يكتب أضعاف ما ينشر، بل إنه لو جمع كل ما كتبه لفاق نتاج أغلب نتاج معاصريه مجتمعين.

ثم يشرح رؤيته عن الكتابة والنشر قائلا “الكتابة والنشر كلمتان مختلفتان تماما، ويجب أن تكون لدى جميع الكتاب وليس لي وحدي. أنا شخصيا ولا أخجل من قول ذلك، احتاج لوقت طويل من أجل الكتابة وإعادة الكتابة لمرات وإتمام كتاب ومشروع كتابي معين قبل أن أدفعه للنشر. على القارئ أن يتصور الوقت الذي أمضيه في التمعن بها ومراجعتها ومن ثم أن أجد ضرورة معينة تقنعني بجدوى نشرها. النشر يأتي في نهاية تأملاتي الكتابية حتى أنني لا أتصور أن مهنة الكاتب هي النظر في فرصة النشر من عدمها. أكاد أجزم أن ما بين النشر وبيني شخصيا، لا وجود لعلاقة عميقة حتى تتضح الأمور بشكل سافر. وإن لم تظهر، فذلك لا يعنيني بالمرة، وأقولها بصدق”.

لعل كتاباته الممجدة للكتّاب المهمين في العالم، وأثرهم عليه هو ما يجعله يمارس النقد في معضلة الكتابة نفسها، قال تافاريس “أنا اكتب، بعدها أنسى الكتاب، ثم فيما بعد وقت طويل أعود له وإذا ما وجدته نافعا على الأقل بالنسبة إليّ وأجدني راضيا عنه، عند ذلك فحسب أقوم بنشره. لا أجدني من جملة الكتاب المفرطين في النشر. في الكتابة نعم أكتب كل يوم، بل لا يمر يومي دون تدوين وتفكير في موضوع معين. أكتب كل اليوم وأحيانا لساعات طويلة دون توقف. لكنني أنظر إلى النشر من ناحية أخرى وهي علاقة كتابي وخروجه مني ليكون بوضع معين مع القارئ، عدا ذلك لا أجد منفعة من نشر الكتاب للنشر فحسب، ولتقول إنك متواجد في السوق الزاخر بالآلاف بل بملايين الإصدارات في العالم أجمع”. ثم يستدرك قائلا: “لو أن لكل كاتب حس نقدي يستخدمه مع كتاباته أولا قبل كتابات الآخرين لاحتاج لبرميل قمامة كمرافق له ومجاور لطاولة عمله، وهذا من أول شروط العمل الكتابي، في الرواية التي نكتب أو في أي عمل إبداعي آخر”.

خليفة ساراماغو وكافكا يرى بأن عملية الكتابة هي خض كبير للقارئ يساهم في وضعه على محك الواقع والحياة

لكنه مع ذلك يقول إنه ككاتب قد نجده يخالف نفسه في كل مرة. مثلا خلال فترة الحجر مع جائحة كورونا، فقد حصل ما لم يحصل معه إطلاقا. ليس الحجر نفسه، فهو مثل كتاب عديدين يمضون أغلب الأوقات في مكاتبهم أو غرف عملهم ولا يخرجون إلا لماما. فهو مع جائحة كورونا استغل كل الوقت في الكتابة، بل إن صديقا سينمائيا قد طلب منه أن يسجله وهو يقوم بعملية الكتابة اليومية وذلك بتثبيت كاميرا في إحدى زوايا الغرفة دون أن تعرقل عملية الكتابة، ومن التسجيلات نرى تافاريس وهو يكاد يعمل أغلب ساعات اليوم كتابة وتدوينا وقراءة. ومنها خرج بيوميات عن جائحة كورونا أجبرته وللمرة الأولى في حياته أن ينشر بالتتابع أسبوعيا في أغلب صحف العالم عن آرائه وعالمه في أزمنة الوباء.

يقول “أنا ككاتب أحدد ما أقوم به وأحيانا أتجاوزه كما فعلت بنشر يوميات جائحة كورونا على العكس من آرائي عن التأني، وهذا ما عليكم معرفته، إنني أناقض نفسي في أغلب المرات، وفي كل ما أقوله وقلته سابقا. ربما العيش تحت ضغط التواجد ومجابهة الموت يوميا هو ما يجعلنا نسارع بالقول إننا ها هنا”. حتى يقول في النهاية “أتفق تماما مع والتر بنيامين عندما قال إننا نحتاج إلى يد يسرى أخرى لكتابة ما لا نقدر على كتابته باليد الأخرى. وربما هذا ما أقوم به في أغلب النتاجات الأخيرة فعلا”.

ويوضح عبدالهادي سعدون “عندما أخبرته أن بعض أعماله، القليل منها، مترجم إلى العربية، فرح جدا رغم أنه لم ير أي نسخة منها حتى اليوم. وقال بشكل صادق إنه يتمنى أن يستمر القارئ العربي بقراءته خاصة مع أعماله الجديدة. وعندما سألته رأيه كختام لكلماتنا هنا في مدينة إسبانية غريبة لم نفكر بها إطلاقا كمسرح للقاء، قال لي: لطالما أن كل أقوالي أشارت للكتابة والعملية الإبداعية فلا بد لي أن أكرر ما أقوله لأغلب من يتابعني من قراء ونقاد وهو أن عملية الكتابة هي عملية إيقاظ للقارئ، عملية خض كبرى تساهم بوضعه على محك الواقع والحياة، وليست مدعاة لاسترخائه وكأنها سلعة مقدر لها أن تساهم في هذا الدور. لو أنني ساهمت بقدر بها فهذا شيء خارق ومريح لي كإنسان وكروائي”.

13