كارلوس زافون يكتب ملحمة إسبانيا في فترة الجنرال فرانكو

حسنا فعلت دار “مسكيلياني” التونسية المتخصصة في نشر ترجمات للروايات العالمية، عندما أصدرت مؤخرا ترجمة لرواية “ظل الريح” لكارلوس رويز زافون المولود في مدينة برشلونة عام 1964، والذي يعد راهنا واحدا من أهم وأشهر الكتاب الإسبان. فقد أحرزت هذه الرواية عند صدروها قبل سنوات على شهرة عالمية واسعة، وبها نوّه كبار النقاد.
كما أحرزت على جوائز رفيعة في عدة بلدان. وقد أنجز الترجمة السوري معاوية عبدالحميد، مُظهرا مرة أخرى عناية فائقة بكل عمل يقوم بنقله إلى اللغة العربية، وباذلا كل ما في وسعه لتكون الترجمة عاكسة لجمال العمل وبراعة صاحبه لغويا وأسلوبيا وفنيا.
وقد جاءت رواية “ظل الريح” مختلفة عن جلّ الروايات التي كتبت عن “الفترة الفرانكية”. والتي عادة ما تركز على الصراعات السياسية والعقائدية. لكن هذه الرواية تتميز بنَفَس ملحمي وشعري يذكّر بروائع مثل “البؤساء” لفيكتور هوغو، و”الإخوة كارامازوف” لدستويفسكي، و”مئة عام من العزلة” لغابرييل غارسيا ماركيز. وفيها تتعدد الأصوات والحكايات وتتشابك، وتفضي كل واحدة منها إلى أخرى ليجد القارئ نفسه مأخوذا ومندهشا إزاء كل واحدة من هذه الحكايات العجيبة والغريبة.
في الرواية تختلف الشخصيات وتتعدد متناقضة في أسلوب حياتها وفي أفكارها وفي مسارها، ما يجعلها تتصادم في ما بينها ولا تتآلف إلاّ نادرا. ونجد بين هذه الشخصيات، رجال دين متزمتين وأغنياء يتصفون بالغطرسة والعنف، وفقراء يعيشون الجوع والتشرد، لكن ذلك لا يمنعهم من التحلي بالنبل والطيبة، وعاهرات يغرفن كيف ينسجمن مع تطورات الأحداث وتقلبات الأيام، ومخبرين يتلذّذون بملاحقة الآخرين وتنغيص حياتهم، وانتهازيين يتقنون في كل مرة الانقلاب على أفكارهم ليكونوا على الصورة التي تروق لأهل السلطة والنفوذ.
علاوة على الأحداث المتلاحقة والشخصيات المثيرة والتراجيدية تبهرنا “طل الريح” أيضا بلغتها السردية، التي تتميز بشاعرية ساحرة، وبأسلوب منساب لا يتعثر أبدا. كما أن كارلوس زافون حرص على أن يبتكر استعارات بديعة مثل “في ذلك اليوم حلّ الخريف كمعطف من وريقات يابسة على الطرق كدوّانات تشبه جلد الأفعى”.
الراوي الأساسي في”ظل الريح” دانيال يشرع في رواية الأحداث التي عاشها وهو في السابعة عشرة من عمره، عند بلوغه سن الثلاثين. وهو ابن تاجر للكتب القديمة في مدينة برشلونة. لذا عشق مبكرا عالم الكتب وفتن بجمعها والبحث عنها. وقد فقد هذا الشاب الشجاع والنبيه، الممتلك لفضائل أولئك الذين يظلون متمسكين بالمبادئ الإنسانية النبيلة حتى في أزمنة انتفائها وذبولها، والدته في نهاية الحرب الأهلية الإسبانية. وكان آنذاك في الرابعة من عمره. ويوم دفنها كانت الأمطار تتهاطل بغزارة لذا ظن أن السماء تبكي مثله رحيل أمه. ولكن الأب تمكن بحنانه وعطفه من أن يخفف عن ابنه غياب الأم، وبينهما نشأت علاقة موسومة بالصفاء والصدق والمحبة.
تبدأ الرواية بزيارة دانيال “مقبرة الكتب المنسيّة” ليكتشف عالما فتنه من النظرة الأولى. وعندما كان يتمعن في ذلك العدد الهائل من الكتب قال له والده “هذا المكان سرّ يا دانيال، إنه معبد. حَرَم خفيّ. كل كتاب أو مجلد هنا تعيش فيه روح ما. روح من ألفه، وأرواح من قرؤوه وأرواح من عاشوا وحلموا بفضله”.
وتلك الزيارة التي أداها إلى مقبرة الكتاب المنسية ستفتح عيني دانيال الشاب لا على عالم الكتب فقط، وإنما أيضا على حياة مؤلفيها، وعلى التاريخ القديم والحديث، وعلى أحداث عاشها أو عاشها غيره. لكن أهم ما وقع لدانيال في تلك الزيارة هو اكتشافه لرواية عنوانها “ظل الريح”. وتلك الرواية ستحرضه على البحث في سيرة صاحبها خوليان كاراكس. وحتى النهاية سيظل منشغلا بها وبتعقيداتها، وخفاياها.
ورغم المصاعب والمتاعب التي واجهها لم يتخل عن ذلك أبدا ليصبح البحث في سيرة خوليان كاراكس بحثا في تاريخ إسبانيا من بداية القرن العشرين، وحتى السنوات التي عقبت الحرب الأهلية الإسبانية وما تخللها من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية وغيرها.
من الصعب تلخيص رواية ضخمة ومليئة بأحداث عديدة وفيها تتحرك العشرات من الشخصيات، ثم إنها ليست رواية واحدة بل عدة روايات. كل واحدة من هذه الروايات تنفرد بخصائصها ومدلولاتها. لذلك جاءت موسومة بنفس البعد الملحمي التي تتميز به الأعمال الروائية الكبيرة والتي لا نكاد نجد لها مثيلا في الأدب المعاصر.