كاتب يجمع بين القرية والمدينة كاشفا أسرارهما والعلاقة بينهما

إن استعادة تجارب الكتاب الرواد من شأنه أن يكشف لنا عن أسرار الحركية الأدبية والثقافية الكبيرة المؤثرة، وهي حركية منقوصة اليوم في ظل ندرة المشاريع الأدبية المنغرسة في تربتها وبنت بيئتها والمؤثرة فيها والمتأثرة بها. من هنا تستعيد الباحثة المصرية هدى البوتلي تجربة الروائي والكاتب سعد مكاوي في دراسة جديدة.
يعد الروائي سعد مكاوي (1916 ـ 1985) أحد أبرز علامات تطور القصة القصيرة والرواية مصريا وعربيا، حيث شكلت أعماله القصصية مثل “مخالب وأنياب”، و”الماء العكر”، و”في قهوة المجاذيب” وغيرها، وكذلك في الرواية “السائرون نياما” و”الكرباج” و”الرجل والطريق” و”لا تسقني وحدي” وغيرها، قراءة مهمة في تحولات المجتمع المصري وانتقاله من الملكية إلى الجمهورية، واستلهامه للتراث في الإسقاط على الواقع جنبا إلى جنب واقعيته في تناول الظواهر الاجتماعية التي طرأت على مجتمعي القرية والمدينة، وتميز بنائه وفرادته السردية والأسلوبية التي تجمع بين التمكن من جمالية وفنية روافد التراثين العربي والغربي على حد سواء.
إن روايات مكاوي تعد نموذجا كاشفا للفترة التي عالجتها على ثنائية محورية أساسية هي “الخنوع/ الثورة” وتتفرع منها ثنائيات أخرى أبرزها “الجهل/ العلم”. كما تقوم رواياته على ثنائية الزمن المتمثلة في “الحاضر البائس/ الماضي الحزين”، في حضور مشهدي روائي يستحق الوقوف عند تفصيلاته ومقاربتها والتماهي مع دلالاتها والكشف عن جماليات سردها وأبعادها النفسية. وهو الأمر الذي فعلته الناقدة هدى البوتلي في دراستها "فضاء المكان بين القرية والمدينة: دراسة في روايات سعد مكاوي."
رحلة الكتابة
تحلل البوتلي في دراستها، الصادرة أخيرا عن دار الأدهم، العناصر الفنية لروايات مكاوي من زمان ومكان وشخصيات وحدث، والقالب الروائي من حوار ولغة وتقنية الرسائل والمذكرات والقناع الصوفي والتاريخي، كما تناولت قضايا السرد التي تمثلت في القضايا السياسية والاجتماعية والنفسية والفلسفية. وتختمها بملحق معجم مفردات الروايات (المفردات التي كانت سائدة في مجتمع القرية المصرية والمدينة أيضا منتصف القرن العشرين، وكذلك مفردات العصر المملوكي، وهي المفردات التي ربما سقط الكثير منها الآن مثل: الأبعدية، البرطوشة، البائرة، البصاص، تكة، الجوزة، الحنش، حنطور.. وغيرها). وقد اعتمدت فيه على ثلاثة مصادر رئيسية: معجم تیمور الكبير في الألفاظ العامیة، معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي، موقع معجم قاموس المعاني.
ترى البوتلي أن مكاوي استطاع أن يوازن بين الحدث في القرية والمدينة، فكانت الأحداث في المدينة بحدة وقوة الأحداث نفسها في القرية، حتى في الروايات التي كانت أحداثها في القرية فقط مثل رواية "الرجل والطريق"، كان للمدينة دور بارز فيها، والروايات التي كانت أحداثها تدور في المدينة مثل روايتي “الكرباج” و"لا تسقني وحدي" كان لأحداث القرية دور بارز فيها، ولم تكن الأحداث مجرد أحداث ثانوية فقط لإظهار دور القرية أو المدينة، بل كانت أحداث رئيسية فعالة، ظهرت فيها قدرة الكاتب على الربط بين أحداث القرية والمدينة ربطا محكما، بحيث لا نستطيع فصل أحداث القرية عن أحداث المدينة كما كان في رواية "السائرون نياما."
وقد استخدم مكاوي نظام الثنائيات في الأحداث الأمر الذي جعل الحدث قويا، متماسكا، متصاعدا متناميا، ذا حدة عالية، وهذا ما ساعده على إبراز صورة القرية في الأحداث، وملامح التأثير لصورة القرية على الشخصيات واللغة والمكان والزمان والحدث في المقام الأول.
تذكر البوتلي أن مكاوي سافر إلى باريس عام 1936 لدراسة الطب، بيد أنه فشل فيها ليحول دراسته إلى الآداب بالسربون، ليعود في عام 1940 دون أن يحصل على الليسانس في الآداب بسبب الحرب، وربما لأسباب أخر. المدة التي قضاها في باريس ساعدته على دراسة بعض العلوم ذات الصلة الوثيقة بالأدب، مثل علم الجمال وعلم النفس وسيكولوجية الجنس وأصول فنون القصة والمسرح والفن التشكيلي وغير ذلك. كما انفتح أمامه عالم كتاب القصة والرواية العالميين أمثال جي دي موبسان، وبلزاك وإميل زولا ومارسيل بروست وغيرهم.
◙ روايات مكاوي نموذج كاشف للفترة التي عالجتها في حضور مشهدي روائي يستحق الوقوف عند تفصيلاته ومقاربتها
عقب عودته عمل بالصحافة وكتابة القصة القصيرة، وفي عام 1947 تولى الإشراف على صفحة الأدب في جريدة المصري واسعة الانتشار وقتئذ، فتمكن من نشر قصصه وفتح باب النشر أمام نقاد اليسار وأدبائه أمثل محمد مندور وعبدالرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس وسعد الدين وهبه ونعمان عاشور، ولكن للأسف أغلقت جريدة المصري مع إلغاء ثورة 23 يوليو الأحزاب عام 1954.
انتقل للعمل للإشراف على الصفحة الأدبية لجريدة الشعب عام 1956 ويظل بها حتى عام 1959، ومنها إلى العمل كاتبا بجريدة الجمهورية لسان حال الثورة آنذاك، وهناك يتبارى نتاجه الأدبي مع نتاج يوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوي، وينشر على صفحاتها رائعته في الرواية التاريخية، والتي ستظل علامة في تاريخ الرواية العربية “السائرون نياما” مبلورا فيها بتقنية فنية عالية رؤيته الواقعية والتاريخية للمجتمع المصري في ذلك الحين من خلال فترة تاريخية من العصر المملوكي. وقد حققت الرواية تأثيرا واسعا على كل كتاب فترتي الستينيات والسبعينيات ممن استلهموا التراث في محاولة لإسقاطه على الواقع المصري.
وتؤكد الباحثة أنه كانت لمكاوي قدرة كبيرة على توظيف الحدث النفسي الذي أبدع في توريته خلف أحداث الرواية، بحيث استطاع أن يعبر عما في سريرته دون أن يظهر ذلك علانية للقارئ، فقد أظهر في الأحداث ما هي الصوفية المصطنعة “الصوفية الشعبية”، وهي طرق ممارسة المتصوفين في الأحياء الشعبية والحواري والمناطق الريفية، وشخوصها المتميزين من أصحاب الكرامات، وتعبيراتها الإبداعية التي تظهر في حلقات الذكر وفي الزوايا التي يمارس فيها التائهون في غيبوبتهم الروحية طقوسهم، وفي الموالد والمقامات المنتشرة في مناطق كثيرة.
وبينت أن الكاتب درس معنى الصوفية الحقيقية “فلسفة التصوف” التي وظفها بشكل أكثر تركيزا في رواية “لا تسقني وحدي”، ووظف فيها شخصيات صوفية معروفة في التراث الصوفي الإسلامي، مثل محيي الدين بن عربي وشهاب الدين السهروردي وعمر بن الفارض وغيرهم، وعن صناعة الدين، وعلماء السلطان، وعن دور السلطة وعن الوظائف المختلفة التي يقوم بها الدخلاء، ودور البصاصين، الذي كان بارزا في رواياته كافة، وأحداث الظلم والقهر والاستبداد التي كان يعيش فيها الوطن.
البناء والصور
تضيف البوتلي أن مكاوي قدم في رواياته أساليب مختلفة لتقديم صورة القرية، مستخدما في ذلك كل أساليب تقديما، وحدد علاقته بصورة القرية، وكيف أثرت صورة القرية فيه، ولم يغفل العلاقة بين القرية والمدينة، بل حلل العلاقة بينهما على أنها علاقة تكامل لا تفاضل، واستخدم المتعاليات النصية في إظهار صورة القرية، من عتبات، ونص مواز، وتناص، وكان للثنائيات الضدية دور كبير في إظهار صورة القرية، وقد أبدع في توظيفها، سواء على نطاق الحدث الروائي أو لغة السرد أو الزمن الروائي.
كما قدم مكاوي في رواياته تسجيلا دقيقا للأحداث بذكاء المؤرخ، ووصفا بارعا للمكان بدقة المصور، وسردا منطقيا للزمن كأروع ما يكون السرد، ودقة متناهية في ذكر تفاصيل الأحداث، ووصفا متكاملا حيويا للشخصيات بملامحها وثقافتها وخصالها، مستخدما لغة سردية أدبية تتأرجح بين الفصحى والعامية والوظيفية، بطريقة مثيرة جذابة تعطي الرواية طابعا متميزا. فقد تناول حياة الفلاح من الداخل والخارج معا، بل امتد التأثير في الأحداث إلى المدينة من خلال صراعات الأفراد وصور القرية المتعددة، التي كان لها الأثر الواضح في الشخصيات الروائية، في القرية والمدينة على حد سواء، وكيف بدت القرية ضحية المدينة، فلا يمكن تصور الأحداث بهذه القوة، ما لم تكن القرية صنيعة الكاتب ونتاج فكره.
◙ الدراسة تحلل أبرز العناصر الفنية لروايات سعد مكاوي من زمان ومكان وشخصيات وحدث، والقالب الروائي الذي أنشأه
وتشير البوتلي إلى أن مكاوي أسس بناءه الروائي بمرجعية واقعية، ما كان لذلك من أثر على نفوس قارئيه، بحيث تشعر أن الأحداث واقعية بحتة لا تمت للخيال الروائي بأي صلة، تقرأ كأنك تسرد أحداثا قد حدثت بالفعل، لا متخيلا سرديا روائيا، فجاء بذكر أشياء القرية مثل المصطلحات والأماكن القروية، والأدوات الزراعية، والملابس وأماكن العيش والعمل، ويرجع ذلك إلى المخزون القروي للكاتب وهو المحك الرئيسي الذي جعل صورة القرية تؤثر في مكونات الخطاب الروائي بهذا الشكل المتقن، فهو يعرف جيدا خباياها وزواياها ومعتقداتها وموروثاتها، ويتنقل بين أرضها ودروبها وبيوتها حتى إنه غاص في أعماق شخصياتها.
وتوضح أن الزمان والمكان ارتبطا ارتباطا شديدا في روايات مكاوي، لذلك تجاوز المكان وظيفته الأولية بوصه مكانا لوقوع الأحداث إلى فضاء يسع بنية الرواية ويوثر فيها، وقدرة مكاوي على توظيف الشخصية المعاصرة والشخصية التاريخية والشخصية التراثية والصوفية، وأن صورة القرية جاءت معبرة عن روح العصر الذي تعيش فيه، وممثلة لفكره وحضارته، ومترجمة للعديد من الظواهر الاجتماعية والثقافية الموجودة في المجتمع.
وتؤكد البوتلي أن مكاوي برع في رسم صورة مزدوجة للحياة في القرية، فرسم صورة الحلم/ اليقظة، الحب/ الكره، الروح/ الجسد، الواقع/ الخيال، النسيان/ التذكر، البكاء/ الضحك، الخوف/ الأمل، الفرح/ الحزن، الخير/ الشر، الزيف/ النقاء، كما رسم الجانب الآخر: رسم صورة المستبد، اللص، المنتفع، الدخيل، العالمة، ورسم صورة العاهرة، واليهودي والنصراني، ورسم صورة عالم السلطان، ورسم صورة الحاكم المستبد، ورسم صورة القهر والاستبداد، ورسم صورة الخنوع والظلم، ورغم هذا الجانب المظلم فإنه رسم صورة “شمس الحرية” التي ستزيل الاحتلال الفكري، وسيرحل الغزاة بمختلف أسمائهم وأقنعتهم وستبقى أرض القرية وإنسانها الثائر الحر العظيم، وستثور الأمكنة والأزمنة للإدلاء بشهادتها الدامغة وستعلو زغرودة فرح معلنة يوم التحرير.