كاتب فرنسي يفك المعادلة الصعبة: كيف تتعامل مع كتابك الأول

يهمل أغلب الكتاب أعمالهم الأولى، بعضهم يتركها للنسيان أو يتلفها حتى، وبعضهم الآخر يخير العودة إليها بعد عقود لتنقيحها، ولكن هذا التنقيح قد يحيد بالعمل عن نسخته الأولى، وبالتالي يعتبر إعادة كتابة لا توفق دائما. هذا المأزق طرح أمام الروائي وكاتب السيناريو الفرنسي بيير لوميتر والذي تخطاه بطريقة مختلفة مع روايته “وداعا يا من بالأعلى”.
ماذا يمكن أن يفعل الروائي عندما يعود إلى روايته الأولى التي وضعها حبيسة الأدراج؟ ماذا يفعل وقد حقق شهرة واسعة وحصد العديد من الجوائز؟ هل يعيد كتابتها مرة أخرى وينشرها؟ أم ترى ينشرها كما هي بأسلوبها الذي كتبها به؟ وأيضا ماذا لو أنه انتقل إلى جنس روائي غير الذي بدأ به حياته الأدبية كأن ينتقل من الرواية التاريخية إلى الرواية البوليسية أو إلى الرواية الواقعية؟
هذه التساؤلات ربما تكون لها إجابة من الروائي وكاتب السيناريو الفرنسي بيير لوميتر الذي فاز مؤخرا بجائزة “غونكور” الأدبية، أرفع جائزة في فرنسا عن روايته “وداعا يا من بالأعلى”، التي تروي قصصا عن جنود في الحرب العالمية الأولى، والمشهورة عالميا بروايات الجريمة التي تصور الشخصية الخيالية.
الرواية البوليسية
انتقل لوميتر من الرواية البوليسية إلى الرواية التاريخية أو الرومانسية على الرغم من حصوله حتى الآن على ثماني جوائز عن رواياته في عالم الجريمة والتي تحول أكثرها إلى أفلام. وهنا في مقدمته لرواية “العملية الأخيرة للقاتلة المأجورة” التي ترجمتها باسنت عصام وصدرت عن دار العربي، يعترف لوميتر بأن هذه الرواية روايته البوليسية الأولى، وأنه لم يعد كتابتها، رغم الفاصل الزمني الطويل من ناحية كتابتها، وأيضا من ناحية تركه كتابة الرواية البوليسية.
يحكي لوميتر الكثير من التفاصيل الكاشفة عن تحولاته وأثرها على تجربته الروائية. يبدأ “يسألني قرائي كثيرا إن كنت أعتزم العودة يوما إلى الرواية البوليسية، فأقول لهم دوما إنني لست متأكدا، وفي الحقيقة عندما أقول لهم إنني لست متأكدا، أقصد في واقع الأمر أنني أتمنى العودة إلى هذا النوع. فما آلمني كثيرا هو أنني ابتعدت عن هذا النوع فجأة، لم أودعه كما ينبغي، وتركته في منتصف الطريق فجأة، وهذا ليس من عادتي”.
ويضيف “ابتعدت عن الرواية البوليسية دون قصد مني، فروايتي ‘وداعا يا من بالأعلى‘ كانت في الأساس مشروعا لرواية بوليسية، لكنها اتخذت منحى تاريخيا، وفتحت لي الآفاق أمام مشروع أدبي حول القرن العشرين. لطالما أرقتني فكرة ابتعادي المفاجئ عن الرواية البوليسية لدرجة أنني بعدما فرغت من ثلاثية ‘أبناء المأساة‘، اختتمت ‘قاموس الحب في الرواية البوليسية‘، وهو ما أحيا رغبتي في العودة إلى الرواية البوليسية من جديد. حينها فكرت في العودة إلى رواية كنت قد كتبتها عام 1985، ولم أرسلها حينها إلى أي ناشر قط، لأنني بعدما انتهيت من كتابتها، دخلت في مرحلة فيصلية ومحورية من حياتي، وعندما انقضت هذه الفترة، لم تعد الأمور مثلما كانت عليه في الماضي، وتغير كل شيء، وشعرت بأن هذه الرواية لم تعد تمثلني، فأغلقت عليها أدراج المكتب”.
ويضيف “في أثناء كتابة ‘قاموس الحب‘، تذكرت هذه الرواية وعدت لقراءتها من جديد، وفوجئت بالعديد من العناصر، وأدركت أن العديد من الأماكن والشخوص والموضوعات التي وردت في تلك الرواية تعمقت فيها بالفعل في رواياتي التالية. أحداث الرواية تدور في عام 1985، في زمن مقصورات التليفونات العمومية، وخرائط الطريق الورقية، في زمن لا يخشى فيه الكاتب من أن تفسد حبكته بسبب التليفونات المحمولة أو تطبيقات تحديد المواقع، ومواقع التواصل الاجتماعي، وكاميرات المراقبة، وتقنيات التعرف على الصوت، وتقنية الحمض النووي، والملفات الرقمية المركزية”.
ويكشف لوميتر “عُرف عني أنني قاس مع شخصياتي، وقد برزت هذه السمة حقا في تلك الرواية. فالقارئ لا يتقبل دائما أن تختفي شخصيته المفضلة، لكن هذا ما يحدث في الحياة، أليس كذلك؟ ألا نسمع فجأة عن رحيل صديق، أو عن تعرض أحدهم لحادث سير، أو عن إصابة أحدهم إصابة خطيرة وهكذا؟ الحياة ليست عادلة، فلماذا يطلب القارئ من الكاتب أن يحنو على شخصياته أكثر مما تحنو الحياة على البشر؟ لأن القارئ يعرف أن الكاتب يمكنه أن يختار لشخصياته مصيرا مختلفا، لكنه أحيانا كثيرة لا يفعل. لكن في حقيقة الأمر، من المفترض أن يتوقع القارئ مسبقا قبل أن يقرأ رواية بوليسية أن الرواية ستعج بأحداث دامية وبجرائم قتل، وبسفك دماء، فعلى أصحاب القلوب اللينة أن يختاروا لأنفسهم أنواعا أخرى تناسبهم أكثر من الرواية البوليسية إن كانوا لا يرغبون في مطالعة أحداث عنيفة ودامية”.
تصحيح الماضي
يقول “قد يرى بعض القراء أن الكاتب لا يتعين عليه أن يُفرط في الأحداث المأساوية. لكن رأيي أنا هو أن قارئ الرواية البوليسية ينتظر أن يرى
مشاهد قتل، وسفك دماء، وينتظر أن يرى الشخصيات تتعرض لظلم، وأن يرى ما يكابده الإنسان في حياته الحقيقية يتحقق في الرواية. هذه الرواية إذا كانت في الأساس روايتي الأولى. وكالعادة، وكما يحدث في مثل هذه الحالات دوما، سيُقيّمها القارئ الصارم بشدة ودقة، وسيُقيّمها القارئ المتساهل بشيء من اللين”.
ويذكر أنه عندما أعاد قراءتها، وجد فيها بعض الهفوات، لكنه تساءل هل يتعين عليه أن يرمم الرواية كليا؟ ووجد الإجابة في مقدمة كتاب “أفضل العوالم” الذي كتبه ألدوس هكسلي في عام 1946، حيث قال “إن تفكير الكاتب مليا في الهفوات الأدبية التي ارتكبها منذ عشرين عاما، ومحاولته إعادة ترميم عمل ما، وتنقيحه من العيوب كافة التي شابته خلال عملية كتابته الأولية، وقضاء الوقت الراهن في تصحيح أخطاء الماضي الفنية التي ارتكبها بنفسه في سن أصغر وفي وقت سابق كان فيه أقل نضجا مما هو عليه الآن، ما هو إلا عمل واه وغير مجد على الإطلاق، لأن حينها سيجد الكاتب نفسه مضطرا إلى لإعادة الرواية برمتها”. وهو يتفق معه تماما.
ويختم “لقد فضّلت أن أقدم روايتي للقارئ كما كتبتها في السابق، لكنني فقط أعدت صياغة بعض الفقرات التي كانت ستصعّب على القارئ متابعة سير الأحداث، وأجريت بعض التعديلات الجمالية الطفيفة. الرواية البوليسية أحداثها دائرية وتشبه الحلقة المغلقة التي تدور أحداثها في فلك واحد، ولذلك قررت أن تكون آخر رواية بوليسية أقدمها للقارئ هي نفسها أول رواية بوليسية كتبتها في حياتي”.
الرواية “العملية الأخيرة للقاتلة المأجورة” تدور حول ماتيلدا القاتلة المأجورة المحترفة التي بلغت أخيرا الستين من عمرها، ومع ذلك لا تشوبها شائبة ولا تخطئ أبدا عند الإيقاع بهدفها وضحيتها الجديدة ولا تترك أي أثر وراءها. لكن في إحدى الليالي، عندما تكون هي ضحية أخطائها ولا تنفذ العملية الجديدة بالشكل الأمثل، تصبح أمام مخاطرة كبيرة مع الشرطة ومع مديرها في المنظمة الذي تربطها به علاقة قديمة. تتسع دائرة الحرب أمامها وتصبح في مواجهة كل من يحاول الإيقاع بها وكشف جرائمها، ومن ثم عليها أن تقضي عليهم جميعا قبل فوات الأوان وقبل أن يُقضى عليها.