كاتبة عمانية تحرر الرجل من شخصياته في روايات النساء

تقدّم تجربة القاصة والروائية العمانية هدى حمد أفقا جديدا في الإبداع العماني من حيث الرؤية والمعالجة الأسلوبية، كونها ترتكز على تشكلات المجتمع والعلاقة بين الرجل والمرأة وما يحيطها من تفاعلات تلقي بظلال واسعة على رؤية كل منهما للآخر، وهذا ما جعل تجربتها تحت مجهر النقد في دراسة جديدة حول جل أعمالها.
كانت تجربة القاصة والروائية العمانية هدى حمد محل دراسة موسعة للناقد محمد محمود حسين هندي، والتي صدرت أخيرا في كتاب بعنوان "التحول الدرامي وانفتاح المتخيل السردي (قراءة نقدية في روايات هدى حمد)" صدر عن دار فكرة كوم الجزائرية.
وحاول هندي في دراسته كشف بواعث التحول الدرامي في روايات حمد والدلالات التعبيرية التي يتضمنها، ثم علاقة هذا التحول بالمتخيل السردي عندها، أولا: على مستوى خصوصية الموضوعات المطروحة من حيث أبعادها الذاتية والجمعية. وثانيا: على مستوى البنية السردية عبر بيان أثر هذا التحول في تشكيل تقنياتها الجمالية، وهذا يعني أن المتخيل السردي هنا يتحدد بالجمع بين الموضوع والشكل في آنٍ واحد، وأن أحدهما لا يمكن أن يستقيم في حالة بقائه بمعزل عن الآخر، فهما مادة الروائي في مرحلة ما قبل الكتابة.
أكد هندي أن حمد “حاولت عبر متخيلها السردي إقناع قارئها بأنه أمام كتابة روائية حرة تتأسس على مبدأ تغيير الصورة النمطية للكتابة النسائية، خصوصا تلك التي تحصر قضيتها في الانتصار للأنا الأنثوية في علاقتها بالأنا الذكورية، إنما في هذه الكتابة الحرة هناك صورة مجتمع تتشكل من خلال وعي كل من الرجل والمرأة على حد سواء، هناك التناقضات الحياتية نفسها الموجودة في الواقع الاجتماعي (داخل سلطنة عمان وخارجها)، الذي تكشف تدريجيا من خلال التحول الدرامي الذي طرأ على الشخصيات الروائية في علاقتها بهذا الواقع سلبا وإيجابا. كل هذا وغيره من شأنه دفع القارئ إلى التفاعل مع ما يعرض عليه، لأنه من المتوقع أن يجد شيئا من ذاته يسكن إحدى جنبات هذه الكتابة الحرة سواء في موضوعها الفكري أو نطاقها الجغرافي”.
وأوضح أن محاور الدراسة دارت حول فاعلية التحول الدرامي، نظرا إلى حضوره اللافت للنظر في روايات هدى حمد، وهو حضور استوجبت قراءته قراءة نقدية تهدف إلى تبين المضامين والقيم الجمالية التي تضمنها هذا التحول في ارتباطه بالشخصيات النسائية (المحورية) التي تمركز حولها الحدث الروائي.
الشخصيات الروائية
ورأى هندي أن هذا التحول الذي استمد دراميته من الصراع (الذاتي والجمعي) الذي كانت عليه الشخصية، قد تجسد من حيث ماهيته في نمطين: أحدهما واقعي، أي أن المرأة تعيش في واقع اجتماعي محدد الملامح، قررت مواجهة تداعياته السلبية وهي في كامل وعيها، ما يعني أنها واقعية قبل التحول وبعده. التحول الآخر نفسي تخيلي (الانتقال من الواقع إلى عالم الأوهام والتخيلات)، وأن لكل منهما بواعثه الخاصة التي دفعت الشخصية إلى اصطناع هذا الفعل التحرري، فكان مرة أداة لمواجهة الاضطهاد الأسري، الذي عمل جاهدا على تحجيم دور الشخصية وحصره فقط داخل نطاق البيت، ثم في مرحلة تالية من تطور الوعي واتساع الصراع أصبح التحول وسيلة ضرورية للكشف عن المعتقدات والأفكار الخاطئة التي عليها الواقع الاجتماعي (خارج نطاق الأسرة) والتي حاولت الشخصيات الانعتاق من أسرها.
وأخيرا استعمل التحول الدرامي قناعا لتمرير موضوعات وقضايا ثقافية وحضارية مسكوت عنها، وقد تم الكشف عنها من خلال اشتباك الشخصية مباشرة مع وعي الآخر خارج الإقليم (البلد) الذي تعيش فيه الشخصية، كما في وضع “زنجبار” و”إثيوبيا” في ثنائية تقابلية مع عمان، وكما في تناول موضوعات إنسانية عامة كصراع العقل مع الخرافة، أو صراع المثقفين مع السلطة.
ولفت إلى أن اختلاف ماهية هذين التحولين (الواقعي والتخيلي) هو أمر فرضته طبيعة الأهداف الأيديولوجية التي سعت الشخصية النسائية لتحقيقها في الروايات، فإصرارها على تغيير الواقع المتردي اجتماعيا وفكريا، وإيمانها بأن تحقيق هذا التغيير يقتضي أن يكون الإنسان واعيا في جميع حالاته النفسية ومواقفه الاجتماعية، إصرار فرض على تحولها أن يكون واقعيا، تعي فيه حقيقة وجودها وأفعالها، ولذلك رأينا صورة هذا التحول ملازمة لقضايا الصراع الطبقي (كما في موقف المجتمع من فئة “البيسرة”) والنظرة الدونية للآخر (كما في نظرة العماني للأفريقي).
عبر هذا التحول الاجتماعي والفكري تمكنت الروايات من تقديم التغيرات التي حدثت للبيئة العمانية بصفة عامة، خاصة ما يتعلق بالنواحي الحضارية والثقافية التي كانت عليها هذه البيئة على مر تاريخها، وربما كان هذا هو سبب الإصرار على وضع عالم القرية في ثنائية تقابلية مع عالم المدينة، كما أفصح عنه محور المكان بين الانغلاق والانفتاح.
وتابع هندي أن من بين الأشياء التي جعلت التحول الآخر (التخيلي) يكون نفسيا، فيه تتقوقع الشخصية على ذاتها مصطنعة عالما من الوهم والخيال بحسب رغباتها التي تتطلع إلى تحقيقها، ارتباط التحول في الكثير من جوانبه بالموضوعات الذاتية الحميمية التي تتصل بخصوصية المرأة، كمسائل الحب والحديث عن الجسد، تلك التي لم تستطع الإفصاح عنها مباشرة في وجه العائلة والمجتمع. هنا كان التحول في حقيقته إدانة صريحة للواقع الاجتماعي الذي جعل المرأة تشعر بذاتها الأنثوية فقط في عالم مخترع من الوهم والخيال.
◙ حمد لم تنشغل كثيرا في كتاباتها بمسألة إدانة الرجل من حيث حصره فقط في نطاق الهيمنة التي تتمثل في ما يمليه من آراءٍ تعسفية
وأكد أن هذه التجليات السابقة التي صاحبت التحول الدرامي في ارتباطه بالشخصية النسائية أبانت عن سمة مهمة في روايات هدى حمد تتمثل في أن التحول الدرامي كان جماعيا، أي لم يكن مختصا بنمط نسائي معين، أو تجربة خاصة بشخصية واحدة فقط بوصفها نموذجا لنمط نسائي موجود في الواقع، بل قدمت الروايات تجارب نسائية متعددة تتقاسم هموما ذاتية وجمعية متشابهة التوجهات والمصائر، تسكن عالمي المدينة والقرية على حد السواء.
وأشار هندي إلى أنه في ما يتعلق بالموضوع الأبرز في الكتابة النسائية وهو علاقة الرجل بالمرأة، لوحظ أن حمد لم تنشغل كثيرا في كتاباتها بمسألة إدانة الرجل، من حيث حصره فقط في نطاق الهيمنة التي تتمثل في ما يمليه من آراءٍ تعسفية، على المرأة أن تستجيب لها من دون إبداء أي وجهة نظر تجاهها، لكن الذي شغلها هو تقديم الطبيعة الفطرية التي عليها هذا الرجل في جميع حالاته التي تفرضها عليه مواقف الحياة الواقعية، ولهذا فإننا لم نجد الصورة النمطية السلطوية للرجل هي وحدها السائدة في الروايات، إنما هناك الرجل المتسلط، والسلبي، والعاشق، والجاد، والمثالي.
وأكثر من ذلك، هناك شخصيات اصطنعت التحول الدرامي خصيصا لأجل أن تعيش حياة رومانسية مع رجل لا وجود له في الواقع، إنما أوجدته في خيالها حسب رغباتها وتطلعاتها، ولهذا تعددت وظائف هذا “الرجل المتخيل”، فهو تارة محفز للحكي، يساعدها مؤقتا في الخروج من وضعها النفسي المضطرب، وتارة أخرى ملهم عاطفي يمنحها فرصة الإحساس بأنها كائن مرغوب فيه، بعد التجاهل الذي وجدته في الواقع من قبل كثيرين لم يروا فيها ما يدعو إلى الاهتمام والعناية. هذا يعني أنه لو أن هناك نمطا واحدا سلبيا للرجل تسعى حمد لترسيخه في وعي القارئ، لَمَا اصطنعت هذا الرجل المتخيل بهذه الصورة الحميمية في وعي شخصياتها النسائية.
ولفت إلى أن هذا التنوع في تقديم صورة الرجل قد يكون إحدى الإستراتيجيات الحجاجية التي تحاول هدى حمد من خلالها إقناع القارئ بأنه أمام كتابةٍ حرةٍ تتأسس على مبدأ تغيير الصورة النمطية للكتابة النسائية، خصوصا تلك التي تحصر قضيتها في مسألة الانتصار للأنا الأنثوية في علاقتها بالأنا الذكورية، إنما في كتابة هدى حمد هناك صورة مصغرة لمجتمعٍ يتشكل من خلال وعي كل من الرجل والمرأة على حد السواء. في هذا الفضاء الكتابي هناك التناقضات الحياتية نفسها الموجودة في الواقع الاجتماعي الذي يختبئ وراء جزئيات هذا الفضاء، وهذا من شأنه حث القارئ على التأثر بما يعرض عليه؛ لأنه سيجد شيئا من بقايا ذاته يسكن إحدى جنبات هذا الفضاء.
التقنيات السردية
لاحظ هندي أن هناك تغيرا في طبيعة المرأة نفسها؛ فهذه المرأة التي انشغلت الحركات النسائية بالانتصار لها والدفاع عن هويتها هي نفسها المرأة التي مارست قهرها وتسلطها على امرأة أخرى من بنات جنسها، ولم يكن أمام هذه (المقهورة) سوى إحداث التحول، بحيث تكون قادرة على مواجهة ما يمارس عليها من ضغوط نفسية واجتماعية خصوصا داخل الأسرة (مع الأم تحديدا).
ويعني ما أسلفنا ذكره وجود تحول في طبيعة الموضوع الروائي الأنثوي، الذي كان في الغالب يدافع عن المرأة من حيث ضرورة تمكينها اجتماعيا وثقافيا. هذا التحول في رؤية المرأة للمرأة تحقق سرديا في الأدوار الوظيفية التي كانت عليها الشخصية الثانوية في روايات هدى حمد، والتي كانت من ضمنها النظرة إليها بوصفها عامل قهر أساسيا أجبر الشخصية المحورية على اختلاق التحول كرد فعل على السلطة التي تمارس عليها.
وقال هندي إن روايات هدى حمد أبانت عن مسألة جمالية بالغة الأهمية، وهي أن التحول الدرامي كان له أثر فاعل في تشكيل البنية السردية للنصوص، وتأكد ذلك أولا في أن هناك انزياحا جماليا حدث للحبكة السردية بمفهومها التقليدي القائم على التسلسل الدرامي، أي لم تعد الحبكة في روايات حمد مجرد سلسلة من الأحداث، تؤسس على مبدأي السبب والنتيجة، بل أصبحت فيضا من التداعي الحر للأفكار المتصارعة التي هي في حالة صدام دائم في الواقع والخيال.
◙ الكاتبة منحت رواياتها تعددية صوتية حوارية كان لها دورها في تقديم وجهات نظرٍ متباينةٍ تجاه الموقف الواحد
وتابع “ثانيا أن الصوت السردي الأنثوي الحاضر بقوة في الكتابة النسائية بصفة عامة، لم يكن في روايات حمد هو الصوت المتحكم فقط في توجيه الحدث، وتوزيع مساحاته النصية، فإلى جواره وظفت الكاتبة أصواتا سردية أخرى منحت رواياتها تعددية صوتية حوارية كان لها دورها في تقديم وجهات نظرٍ متباينةٍ تجاه الموقف الواحد، من ذلك توظيف صوت الرجل بوصفه أداة سردية تعبر عن دلالات فكرية أرادت حمد إبرازها من خلال وعي الرجل نفسه لأسباب تتعلق بطبيعة الموضوع الذي كانت عليه كل رواية احتضنت بين دفتيها هذا الصوت”.
كذلك اتخذت الروايات من صوت الرجل أداة لاستنطاق المسكوت عنه في الفترة التي قضاها العمانيون في زنجبار، وهو ما منح الرواية دلالات حضارية مهمة ما كان لها أن تظهر سرديا لولا توظيف هذا الصوت الذكوري.
وأضاف أنه في مرحلة متقدمة من الصراع الروائي في روايات حمد، حدثت زحزحة للصيغة السردية التي يتكئ عليها السرد الذاتي، وهي صيغة ضمير المتكلم، لتحل محلها الصيغة الموجهة (ضمير المخاطِب)، فنتيجة انسحاب مجموعة من الشخصيات النسائية المحورية من الواقع الاجتماعي، الذي لم تستطع أن تحقق فيه أي شيء مما كانت تتطلع إليه، وهو ما جعلها تبني لنفسها عالما مشكلا من الأوهام والتخيلات؛ نتيجة لذلك اصطنعت حمد خطابا سرديا يتمثل في توظيف ضمير المخاطب (أنت) الذي يتناسب من جهةٍ مع ما يفيض به هذا العالم من تجليات نفسية، بحيث أصبح في الكثير من الأحيان بديلا عن الحوار الخارجي الذي افتقدته مع العائلة، ومن جهة أخرى كان مقابلا للصيغة السردية الذاتية التي رافقت الشخصية أثناء سرد تجربتها في مرحلة ما قبل الانتقال إلى عالم اللاوعي.
وكشف هندي التقنيات السردية التي كان لها دورها في رصد التحول الدرامي في علاقته بالشخصيات، ومنها تقنية الاسترجاع الذي قصدت الروايات من خلاله تبرير المواقف (السلبية والإيجابية) التي عليها الشخصيات في مرحلة ما قبل فعل التذكر، وقد لوحظ أنه لم يظهر الاسترجاع في الروايات في هيئة مواقف قائمة بذاتها، بل تجسد في هيئة حكايات ممتدة، عاشتها الشخصية بنفسها في الماضي، ثم قدمتها في فترة لاحقة، توضيحا لطبيعة اللحظة الآنية التي استدعت تذكر هذه الحكايات، وهو ما جعل الاسترجاع يأخذ طابعا أنثويا خالصا، حيث إنه سبر أغوار الكثير من الأسرار والخصوصيات المتعلقة بالمرأة.