كابوس مكرّر يؤدّي إلى موت متجدّد

"اثنان غريبان وبعيدان".. شخصيتان يقودهما القضاء والقدر في زمن افتراضي.
الاثنين 2021/07/05
صراع مرير بين الواقع والخيال

ما تزال قصص التلاعب بالزمن والعودة إلى الماضي أو الذهاب إلى المستقبل تستأثر باهتمام السينمائيين بصفة عامة وسينما الخيال العلمي بصفة خاصة، وهي ثيمة يحضر صداها وبقوة في فيلم “اثنان غريبان وبعيدان” للمخرجين ترافون فري ومارتن روس، لكن بسياقات تستلهم حبكتها الدرامية من الواقع الراهن.

عادة ما يتدخّل القضاء والقدر في مصير الشخصيات وهي تواجه أحداثا وظواهر لا قبل لها على السيطرة عليها، ولهذا تتعقّد مسألة الإحساس والتفاعل مع الزمن إلى ما هو أبعد، وذلك باتجاه محاولة إيقاف أحداث بعينها والحيلولة دون وقوعها، وهو ما شاهدناه في العديد من الأفلام من هذا النوع الذي يمتلك عناصره الجمالية المميزة.

وفيلم “اثنان غريبان وبعيدان” للمخرجين ترافون فري ومارتن روس ينقلنا إلى تلك الأقدار البسيطة، وذلك من خلال شخصيتين رئيسيتين وهما كارتر (الممثل جوي باداس) وهو شاب مهتم بالتصميم ولكنه يعيش كوابيس متكرّرة تجتمع كلها تقريبا في قيام مارك (الممثل أندرو هوارد) وهو رجل شرطة من نيويورك بقتله بعد الاشتباه في كونه يتعاط ويبيع المخدرات.

ونعيش هنا المشهد المتكرّر بجميع تفاصيله والذي لا يخفي الدافع العنصري في استهداف الزنوج، بل إن الفيلم يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك إلى استلهام مشهد مقتل جورج فلويد خنقا على يديْ رجل شرطة وهو يردّد كلماته الأخيرة “لا أستطيع أن أتنفّس”.

الفيلم ينتقد بشكل غير مباشر دور شرطة نيويورك المخزي في التصدي لتظاهرات السود أثناء حكم دونالد ترامب

ما بين جورج فلويد وبين كارتر سوف ينقلنا ذلك التلاعب بالزمن والانتقالات المتلاحقة إلى مشاهد درامية مؤثّرة تظهر بطل الفيلم كارتر وهو يحتضر بذات الطريقة، ولكنه وهو يصل إلى الذروة فإنه سرعان ما يعود إلى الواقع، ويكتشف أن حادثة الخنق لم تكن إلاّ كابوسا مخيفا، وأن عليه التخلّص منه، لكنه سوف يدور في حلقة زمنية – خيالية تُعيد مشهد المواجهة بين الرجلين مرة بعد أخرى.

خلال ذلك تقع الأحداث على خلفية علاقة كارتر بصديقته بيري (الممثلة زاريا سيمون) التي يزورها وينام في منزلها في كل ليلة، وهناك يعيش الكابوس ذاته، لاسيما وأن كارتر كلما خرج من المبنى وجد رجل الشرطة بانتظاره، بل إن الشخصيات الأخرى التي سوف يشاء القدر أن تكون موجودة في تلك اللحظة هي الأخرى يتكرّر ظهورها مرارا.

لا شك أن العناصر الجمالية في التلاعب بالزمن ومتعة تغيير المصائر والأحداث هي التي تدفع قدما نحو المزيد من الاكتشاف في مسار الأحداث، بما في ذلك مواقف قائمة على المغامرة والمجهول، ولكنها مفروضة وشبه قدرية ممّا يجعل الشخصية في وضع نفسي شديد الارتباك في ما يجب عليها فعله لغرض الخروج من تلك الدوامة والدائرة.

سوف نتذكّر هنا فيلم “الحلقي” (إنتاج 2021) الذي يطوّر أيضا فكرة التكرار الزمني للأحداث وكيف تمرّ الشخصيات بمواقف قدرية يكملها فيلم “القضاء والقدر” 2014، بالطبع هناك أفلام أخرى عديدة، لكن هذين النموذجين يرسخان ذلك النوع من المعالجات السينمائية – الإخراجية المتقنة التي يجري من خلالها الانتقال عبر الزمن باتجاه تغيير المصائر وبما يحمله من جماليات في الشكل وفي المعالجة الإخراجية.

التلاعب بالزمن والعودة إلى الماضي أو الذهاب إلى المستقبل
التلاعب بالزمن والعودة إلى الماضي أو الذهاب إلى المستقبل

الحيرة التي تسيطر على كارتر هي أحد المفاتيح الأساسية المؤثرة في هذه الدراما، وكأننا في مدار زمني مغلق تتكرّر فيه الحوادث في صيغ مختلفة، لكنها تلتقي جميعا في دائرة محددة تتعلّق بالهلع الذي ينتاب كارتر من فرط تكرار الواقعة التي لا يجد لها تفسيرا، وهل أنها سوف تقع فعلا؟

ونحن هنا أمام بعد انتقادي غير مباشر للدور المخزي لشرطة نيويورك في التصدي لتظاهرات السود أثناء حكم الرئيس السابق دونالد ترامب، حيث تم قتل العديد من المتظاهرين السلميين وجرحهم، وكان في مقدّمتهم الضحية جورج فلويد الذي تحوّل إلى أيقونة للدفاع عن الحقوق والحريات.

ولا يقتصر الإحساس بالحيرة والتشتّت تجاه ما يجري من سريان دوّامة الزمن على كارتر بل إنه سوف ينقل ذلك الإحساس مباشرة إلى الشرطي نفسه الذي يكاد يصدّق ما يسمع ويعدّه نوعا من التحايل من قبل كارتر، ولكنه وبسبب صدقيّة كارتر في تسمية الوقائع التي سوف تجري تباعا يبدأ مارك في تصديقه لتكون النتيجة قبول ضابط الشرطة نقل كارتر إلى منزله في مشهد طريف يتمّ من خلاله الكشف عن وجهتي نظر متعارضتين ما بين الواقع وبين الخيال والوهم والافتراض.

وفي موازاة ذلك تختلط في هذه الدراما المواقف التي ترتبط بالخيال المتكرّر والمتغيّر الزماني وبين ما هو واقعي ولاسيما ما تشبه الهدنة التي سوف تقع ما بين كارتر والضابط إلى درجة أنه سوف ينقله إلى المنزل بسيارة الشرطة، ولكن ها هو ينتهي من المهمة ليتضّح أنه أراد اكتشاف مكان إقامة كارتر، وليست هنالك هدنة مطلقا، ولهذا يشهر مسدّسه ويردي كارتر قتيلا في مشهد مكرّر، لندخل في تلك الدوامة مجددا والتي يجد الشرطي نفسه، وفي كل الأحوال، طرفا فيها.

اعتبارات تتعلق بالشكل وبالأداء الدرامي تتكامل في هذه السلسة من الأحداث المكثفة التي تلامس عنصرا بالغ الأهمية والحساسية في مسار الدراما الفيلمية، ألا وهو عنصر الزمن، وهو الذي سيحوّل الشخصية إلى ضحية من ضحاياه بالخضوع للمصير والقضاء والقدر. لكن ميزة هذا الفيلم هو التنويع في مقاربة تلك الظاهرة المتكرّرة.

16