كائنات فضائية

حصاد الأسبوع الماضي كان غنياً. فقد عثرت على صور فريدة بالأبيض والأسود لأضمها إلى أرشيفي الخاص، من بينها صورة تجمع شاعراً شاباً اسمه محمود درويش بشاعر بدا مزهواً بمكانته الكبيرة اسمه محمد مهدي الجواهري.
وكنت قد التقيت الجواهري في مناسبات عديدة في دمشق، وكان في كل مرة شخصاً مختلفاً، ينظر إليك بتمعن من خلف جسده العجوز الذي يخفي حياة مثيرة.
قلّبتُ في صفحات الجواهري في ليالي رمضان هذه، لأراه من جديد وهو يروي قصة قصيدته “المُملَّحة”، التي تعكس تأثير النخب الثقافية في زمن صراع التحديث العربي ما بين أهل السلطة والفكر، ولعل إعادة سردها تقول شيئاً لأهل هذا الزمن.
ففي يوم من أيام الستينات أصدر وزير الداخلية العراقي الأسبق الفريق صالح مهدي عماش الذي كان صديقاً للجواهري قراراً بتطويل تنانير العراقيات، ومعاقبة كل من تتجرأ على ارتداء ثياب قصيرة في الشارع ببخّ ساقيها بالدهان إلى الطول الذي أمر به عماش.
سمع الجواهري بالأمر. وكان يجلس في مقهاه الشهير “سلافيا” في براغ، متأملاً التشيكيات وأزياءهن ومفكراً في ما يحصل في شرقنا وفي قرار عماش وتطويل التنانير والبخاخ والدهان. فكتب قصيدته الشهيرة التي ينتقد فيها قرار صاحبه العجيب قائلاً “نُبّئتُ أنك توسع الأزياء عتاً واعتسافا/ وتقيس بالأفتار أرديةً/ بحجة أن تنافى/ ماذا تُنافي؟ بل وماذا/ ثمَّ من أمر يُنافَى؟/ أترى العفافَ مقاسَ أرديةٍ/ ظَلَمْتَ إذاً عَفافا/ هو في الضمائر/ لا تُخاط ولا تُقصُّ ولا تكافى/ من لم يخفْ عُقبى الضميرِ/ فمِنْ سواهُ لن يخافا”.
وكثيراً ما أفكر أن المبدع، كائن غير أرضي، يملك وعياً متقدماً على وعي الناس، حتى ليبدو قادماً من كون آخر. ولعل أقرب صور ذلك وأطرفها، ما أعلنه باحثون من جامعة “روهونا” قبل أيام، من أن بيوض الأخطبوطات قد تكون وصلت إلى الأرض لأول مرة على متن نيزك جليدي ضرب كوكبنا قبل 540 مليون سنة، لأنه كائن متطور قادر على تغيير شكله ولونه، لديه ثلاثة قلوب، يجدد أطرافه المقطوعة، ولديه مستوى معقد جدا من بروتينات الجينات المشفرة التي يبلغ عددها 33 ألفا.
ولذلك يقولون إن “هذه الميزات تبدو مستعارة من مستقبل بعيد جدا بالنسبة إلى التطور الأرضي”. بالضبط كما يستعير المبدع أفكاره من المستقبل.
وكما فعل الجواهري الذي قال بعد قصيدته تلك “أرسلتُ القصيدة إلى بغداد وانتشرت، وحينها رفعت العراقيات أصواتهن بالدعاء: الله يطوّل عمر الجواهري”. وهو ما كان بالفعل فقد أطال الله عمره حتى قارب المئة.