"قنطرة".. سيرة فنان شعبي سعودي ترصد تحولات الخليج

يمكن للسيرة الغيرية التي يكتبها روائيون وغيرهم عن حياة أشخاص آخرين أن تكون وسيلة لرصد العديد من الظواهر التاريخية والاجتماعية، وبالتالي تتحول من تأريخ للذات إلى تأريخ وتوثيق لمرحلة كاملة بكل تقاطعاتها. هذا الوعي حدا بالروائي السعودي أحمد السماري إلى متابعة سيرة فنان شعبي في تجواله وسفراته وتقاطعاته مع شخصيات أخرى، راصدا من خلاله مرحلة هامة من تاريخ الخليج العربي.
يعمل الروائي السعودي أحمد السماري في روايته الثانية “قنطرة” على ربط ماضي الخليج الاجتماعي والفني القريب بحاضره، وبخاصة في بلده السعودية، وذلك من خلال اقتفائه لسيرة فنان شعبي جال عدة دول خليجية بعد مرحلة التأسيس، وكان شاهدا على تطور الحركة الفنية فيها، بل وكان جزءا منها.
من خلال شخصية الفنان ترصد الرواية التحولات عبر تنقلاته من مكان إلى آخر، من الرياض إلى الدوحة، ومنها إلى الشارقة ومن ثم الكويت، ليعود بعدها أيضا إلى الرياض ويتنقل بين عدة أماكن فيها.
رواية “قنطرة”، الصادرة مؤخرا عن “دار أثر”، تحمل رمزية في اختيار العنوان، حيث تشكل جسرا بين المراحل، والبيئات والمدن والشخصيات والعوالم، بين عالم المدينة المتشكلة حديثا والهجرات التي كثرت إليها من الأرياف ومن قرى وأماكن بعيدة من دول الجوار، وكذلك بين الفنون، وبخاصة الغناء وكرة القدم، بالإضافة إلى رصد المفارقات بين أبناء المكان نفسه، بين الحارة الشعبية المهمشة بما ومن فيها والأحياء الأخرى التي تعكس الطبقية التي كانت جلية وتلقي بآثارها على مختلف التفاصيل الحياتية.
وحيد الجزيرة
ينطلق السماري في أكثر من اتجاه ليعالج قضايا مهمة في إطار روائي محبوك، وتراه يؤرخ لعقود سابقة، ويصور كيف كان الغناء يقابل بنوع من التهميش والتحجيم تارة وبنوع من التقدير تارة أخرى، ويصف كيف أن الفن الشعبي يظل مؤثرا في وجدان الناس وعالقا في أذهانهم بمرور السنوات، وكأنه تميمة اجتماعية تعود لمراحل سابقة تستقي منها الديمومة والقوة لتجدد في واقع مختلف معاصر.
الفنان الشعبي الذي يؤرخ السماري لسيرته هو الفنان فهد بن سعيد الملقب بوحيد الجزيرة، والذي يحظى بحضور لافت في عالم الغناء الشعبي في السعودية والخليج، وتمكن من خلال نتاجاته المتراكمة عبر سنين من تخليد اسمه في عالمه الفني، وكانت له بصمته الخاصة به.
يتتبع السماري رحلة وحيد من البدايات إلى المرض الذي أودى بحياته، ولعل أهم تلك المراحل التي يتحدث عنها هي محطات السجن التي تركت آثارها القاهرة على روحه وكيانه، وغربته عن عالمه بحيث يبدو منفيا في عتمات بعيدة ترهق روحه وتجثم على صدره وتمنعه من إيقاد جذوة الأمل في موسيقاه التي تواصل رحلتها وحياتها بعيدا عنه في الخارج.
هناك خالد ابن السيدة أمه سليم والتي تعكس ضمير الحارة الشعبية، وتكون نافذة الروائي لولوج عوالم حارة الطرادية الشعبية والتقاط المتغيرات التي طرأت عليها بمرور السنين، وكيف أن تلك الحارة تعكس نموذج التغيير العمراني والاجتماعي الذي طال الرياض عبر تراكم السنين، وخلف تداعياته على أبنائها الذين انطلقوا في مساراتهم ودروبهم الخاصة بهم.
شخصيات مقاومة
الشخصية اللافتة والتي تعكس جسارة المرأة في الرياض في مراحل سابقة هي المغنية الشعبية سارة عنبر التي تعاني من أنواع مركبة من العنصرية والاضطهاد، ولاسيما أن والديها جاءا إلى الرياض من دول مجاورة، وهي التي ظلمتها الحياة ووجدت نفسها بين براثن الفقر والحاجة، وتعرضت للغدر من بعض الرجال، بحيث كان الغناء خلاصها وملاذها وواحتها التي تهدئ ثورات روحها.
لاعب كرة القدم المشهور عبادي الذي يتقاطع مصيره مع مصير المغني وحيد في السجن يكون علامة على ما يتعرض له اللاعب من قهر وظلم في حياته وميدانه، بحيث تضيع موهبته في ظلام السجن، ولا يتمكن من إكمال مساره في عالم الكرة كما يفترض للاعب حقق إنجازات لافتة. ويبقى رهين ذكرياته وآلامه وقهره.
◙ الكاتب ينطلق في أكثر من اتجاه ليعالج قضايا مهمة في إطار روائي محبوك كالعنصرية وتراه يؤرخ للماضي بذكاء
يشير صاحب “الصريم” في روايته إلى جوانب من العنصرية التي تعرضت لها شخصياته في رحلاتها، حيث الاستخفاف والنبذ والنظر بدونية، وكيف أنها قاومت الظلم وحققت حضورها بعيدا عن أولئك الذين أرادوا تدميرها وقهرها، وكانت تلك العنصرية وقودا لتحريض إرادة العمل والإبداع والحياة لديها ولم تستطع قتل روح التمرد في أنفسها.
تمكن الروائي أحمد السماري في عمله من رصد التحولات الاجتماعية التي تحققت في بلاده طيلة عقود، وذلك عبر شخصياته التي التقت مصائرها في الرياض وتناثرت في الأرجاء لترسم لوحات حياتها وفنونها وإبداعاتها، وتواصل تأثيرها على الرغم مما عانته من مشقات وما قاسته من صعوبات، ليؤكد أن الفنون الإبداعية لا تفقد بريقها وتأثيرها وجماليتها وتمايز أصحابها عبر الزمن، وأن العصر الحديث ينصف أولئك الرواد الذين كانت لهم أسبقيتهم في شق الطريق أمام الأجيال اللاحقة.