قميص عثمان وكعب آخيل: الترجمة حالة حب وفعل خيانة

الثلاثاء 2016/06/21
هل يخون المترجم القراء

جميل أن يعترف القرّاء بمجهودك كمترجم قائلين مثلا إنّهم أحبّوا النصّ المترجم أكثر من النصّ الأصلي أو أنّ الترجمة رمّمت ثغرات النصّ الأصلي وأصلحت نقاط ضعفه. فهذا يضفي على فعل الترجمة صبغة إبداعيّة ليس من البديهي أن يقع الانتباه إليها أو الثناء عليها.

في مرحلة أولى، يعجبنا هذا الكلام لما فيه من مداعبة للأنا. فإن كان النقاد، كما قيل عن سانت بوف، يكتبون بدافع الغيرة وربّما الحقد لأنّهم كتّاب أو مبدعون فاشلون يلتجئون إلى النقد لتصفية حساباتهم مع العباقرة من معاصريهم، فالأمر مختلف بالنسبة إلى المترجمين الذين يعبّرون عادة من خلال عملهم عن حبّ وشغف كبيرين على الأقل لثلاثة عناصر في غاية الأهمية: لغة الوصول التي تقع إليها الترجمة، النص المترجم أو صاحبه ولغة الانطلاق التي يقع منها ترجمة النص.

ليست الترجمة إذن بالأمر الهيّن وليس من مشمولاتها تحسين النص الأصلي أو تجويده أو حتّى ترميمه، لأنّ لهذا الفعل اسما وهو الخيانة. كما أنّه ليست للترجمة صفة الإخلاص المفرط فيه إلى درجة المغالاة في العفّة، لأنّ ذلك يقتل النص ويؤذي اللغة.

تطرّق فيلسوف الأنوار فولتير منذ القرن الثامن عشر إلى نظرية الترجمة قائلا عن ترجمته الشخصية لمسرحية “هاملت” لشكسبير “لا تخالوا أنّي ترجمت هنا الإنكليزية كلمة كلمة. اللّعنة على صانعي الترجمات الحرفيّة الذين بترجمة كلّ كلمة يوتّرون المعنى! هنا، يجدر بنا القول إنّ الحرف يقتل وأنّ الفكر يُحيي”. (“الرسائل الفلسفية”، 1734)

المسألة تخصّ إذن نقطتين، هل من الممكن من جهة أن نترجم دون خيانة، وهل من الممكن من جهة أخرى أن نتعرّف عبر الترجمة على صوت الكاتب الأول أو حتّى صداه من خلال المترجم الذي من شأنه أن يفرض نفسه وهويته ووجوده ككل على النص والكاتب الأصليّين؟

توجد فعلا عبارة إيطالية تقول «Traduttore, traditore»، وهي تعني أنّ المترجم خائن بالأساس. كما توجد عبارة فرنسية تندرج في نفس السياق، وهي “الجميلات الخائنات” مفادها أنّ الترجمات كالنساء إمّا “جميلات خائنات” أو “بشعات وفيّات”. المسألة إذن مزدوجة فهي تتعلّق بجانبين في غاية التّعقيد وهما الشرف والجمال، يعني الأخلاق أو الإيتيقا والجماليات أو الاستيتيقا. ويكمن التعقيد في غياب الموضوعيّة في المسألتين لعدّة أسباب أوّلها النسبيّة الثقافية وثانيها أولوية الذاتيّة في الفعل الإبداعي وفي تقييمه.

مسألة الترجمة أساسية وبالتالي شاقة لأنّها فعل يومي حتّى بالنسبة إلى الذين يشككون في نزاهتها أو حتّى في إمكانيّتها
الغريب في الأمر هو قيامه على الثنائيات وكأنّ الجانب الديني المبني على الخير والشر ومن ثمة على الجمال والقبح يواصل حكمه فينا وفي نظرتنا إلى العالم، مع العلم أنّ مسألة الترجمة دينية بالأساس لأنّها طرحت _ من خلال إعادة ترجمة التوراة والأناجيل _ مسألة القراءة والتفسير والتأويل والنقد للدّين، وهي إشكاليات تبلورت في القرن السادس عشر لتتسبب في قطيعة بين المسيحيين مع شخصيتي لوثير في ألمانيا وكالفن في فرنسا، اللذين أسسا للفكر البروتستنتي أو الاحتجاجي على القراءات الأحادية والدوغمائية للكنيسة المسيحية. لا فائدة من التذكير بأنّه بسبب إعادة ترجمة الكتب السماوية دخلت أوروبا في حروب أهلية ومجازر لها اليوم، بعد أكثر من خمسة قرون، أصداء وتبعات جمّة.

مسألة الترجمة أساسية وبالتالي شاقة لأنّها فعل يومي حتّى بالنسبة إلى الذين يشككون في نزاهتها أو حتّى في إمكانيّتها. يصيبني شخصيّا الذهول حين يقال لي إنّ ترجماتي جميلة لكنّها تعبّر عنّي أكثر من تعبيرها عن أصحابها، وذلك لأنّي من خلالها أحاول أن أقدّم أو على الأقلّ أن أقترح نصوصا متماسكة في لغة الوصول تجعل منها أعمالا أدبية حقيقية. يرجع هذا النقد إلى جهل ركن أساسي من أركان اللغة وهو الاصطلاح، فعلى سبيل المثال عبارة “قميص عثمان” بالعربية أو “كعب أخيل” بالفرنسية لا يمكن ترجمتها حرفيّا لما تحمله لغويّا واصطلاحيّا من عمق تاريخي وثقافي. المسألة مماثلة بالنسبة إلى الأمثال الشعبية التي يجب فحسب العثور على ما يعادلها في لغة الوصول. على المترجم التحلّي بالصبر وبالشغف في أبحاثه لكي يأتي على الفوارق الثقافية والاصطلاحية بين ثقافة الانطلاق وثقافة الوصول. الترجمة فعل إبداع وبحث

في الآن نفسه. نكران ذلك يكشف عن جهل حقيقي لها خصوصا ولفعل الإبداع عموما، لأنّ الأعمال الأدبيّة من شعر ونثر وفكر ليست وليدة العدم أو العبقرية أو الإلهام، بل هي تضافر خصال من بينها النبوغ والتفاني في العمل والحوار الذي يجب أن نضيف إليه التواضع.

من المهم الحديث عن الترجمة، لكن الأهم منه العمل بغية الخروج من النظري إلى الفعلي، عسانا نتخلص من الثنائيات لنصل إلى المنشود المتمثل في “الجميلات الوفيّات”.

15