قلق قبطي في مصر من تحريض قيادة كنسية ضد مؤسسة "تكوين"

مغازلة كنسيين للأزهر تثير استياء مسيحيين وتقدم خدمة للسلفيين.
الخميس 2024/05/23
لا للقراءة الأحادية للنص المقدس

جوبهت مؤسسة "تكوين الفكر العربي" التي تدفع باتجاه تجديد الخطاب الديني بسيل من الانتقادات من مؤسسة الأزهر في مصر، لكن ما زاد من حجم الجدل تبني أصوات كنسية لموقف الأزهر رغم أن المسيحيين كانوا أكثر المتضررين من التشدد الديني.

القاهرة- سادت حالة من الغضب بين صفوف الأقباط عقب إصدار الأنبا أرميا رئيس المركز الثقافي الأرثوذكسي بيانا انتقد خلاله مؤسسة “تكوين” للفكر العربي ومقرها القاهرة، والتي تدعو للتنوير ومواجهة التطرف، مع أن الأقباط (المسيحيين)أكثر الفئات تضررا من تصاعد التشدد الفكري في مصر.

وأظهرت ردود فعل على بيان الأنبا أرميا مدى تعرض الأقباط لصدمة من وقوف قساوسة ضد محاولة نشر التنوير ومواجهة التطرف الفكري والديني، لمجرد الظهور أمام مؤسسة الأزهر بأن الكنيسة تقف مع المسلمين في ما يمس عقيدتهم.

وجاء في بيان الأنبا أرميا “بعد أن تواصل هاتفيا معي الدكتور أسامة الأزهري (مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الدينية) بخصوص مركز’تكوين’، نعلن أننا نسعى جميعا للحفاظ على الثوابت الدينية كما تسلمناها دون تغيير، ونرفض بشدة ولا نقبل إنكار السنة المشرفة والتقليد الكنسي السابق للكتاب بعهديه القديم والجديد الذي نقل لنا كل ما يحدث في المسيحية من شعائر وصلوات”.

كمال زاخر: كل انتقاد لتوجهات "تكوين" يخدم الإخوان والسلفيين
كمال زاخر: كل انتقاد لتوجهات "تكوين" يخدم الإخوان والسلفيين

وتعرض الأنبا أرميا، وهو أيضا الأمين العام المساعد لبيت العائلة المصرية التابع لرئاسة الجمهورية، لهجوم حاد من الأقباط، وذكّروه بهجمات تعرض لها مسيحيون على فترات من عناصر متطرفة جراء الفهم المغلوط للتراث، والتحجج بالثوابت التي يتمسك بعض القساوسة ورجال الأزهر بالدفاع عنها بقوة، مع أنها نفسها التي جعلت الأقباط مستهدفين طوال الوقت.

ومن بين ما كُتب من أقباط “المسيحيون يتم نقد كتبهم وعقيدتهم وإذا قاموا بالرد تكون تهمة ازدراء الأديان جاهزة. لماذا لا نواجه الفكر بالفكر، ونصمّم على تقليد المتطرفين الذين يتحدثون بلغة العنف والتحريض. ألم تعرفوا أن هناك من يكفّرون الأقباط على مرأى ومسمع من الجميع، لماذا نتدخل لمنع محاولات التنوير”.

وجاء موقف الأنبا أرميا ضمن جدل محتدم حول مؤسسة “تكوين” منذ انعقاد أولى جلساتها النقاشية مؤخرا، وسط شد وجذب في الشارع المصري، بينما ارتبط الاستنكار القبطي بدخول قادة كنسيين على خط “تكوين” التي تسعى لنشر التسامح.

ويقدم وقوف الكنيسة على الحياد وتبرع أحد قادتها بالهجوم على الأصوات التي تطرح نقدا عقلانيا للقضايا الدينية والاجتماعية الشائكة هدية مجانية للتيار السلفي الذي يعادي الأقباط ويقف ضد التجديد، فلن يتحقق انفتاح على الرؤى المطروحة للنقاش في غياب مواجهتها بفكر شجاع تدعمه مؤسسات دينية.

وقال الكاتب كمال زاخر، وهو أحد المدافعين عن التيار العلماني في مصر، أن بيان الأنبا أرميا “لا يأتي على هوى بابا الأقباط، تواضروس الثاني، والغالبية العظمى من المسيحيين يُدركون أن الإصلاح الحقيقي يبدأ بالفكر، ثم إن مواجهة أيّ فكر أو رؤية بالقوة يتناقض كليا مع مبادئ الأقباط، لحسابات دينية وأخرى سياسية”.

وأضاف في حديثه لـ”العرب” أن كل انتقاد لتوجهات مؤسسة “تكوين” يخدم جماعة الإخوان والسلفيين، حيث يعنيهما استمرار الانغلاق، ويتعاملون مع أيّ بيان يصدر عن قيادة كنسية موجه ضدها كانتصار لهما، بمبدأ “عدوّ عدوّي، صديقي”، ومن الخطأ خلق رابط غير موجود بين الكنيسة و”تكوين” بنقد أهدافها.

وتوقع البعض من الأقباط وجود مساندة قوية من رجال الكنيسة لمؤسسة “تكوين”، لتفنيد الادعاءات التي يطرحها المتطرفون فكريا، ولن يكون موقفهم مماثلا لرؤى وقناعات العناصر المنغلقة دون اقتناع بأن المساواة التي يحرص عليها المسيحيون في مصر، لن تستمر في غياب دعم المواجهة الفكرية بالحجة والمنطق.

ومع كل ما أثير حول مؤسسة “تكوين” وأنها ترغب في “نشر الإلحاد والتحرر الأعمى”، فإن أهدافها المعلنة وخططها المنشورة تشير إلى أنها تبحث عن فكر مستنير وإصلاح فكري، وإرساء احترام الآخر، وهي مبادئ يجاهد السلفيون لمحاربتها.

ويرى مراقبون أن مغازلة بعض قادة الكنيسة لمؤسسة الأزهر التي لديها مواقف متصلبة ضد كل ما يمس تجديد الخطاب الديني أو يدعو لتنقيح التراث، أو الاجتهاد وإعمال العقل، انتكاسة للدولة المدنية في مصر، كمدخل لتثبيت الأمن والاستقرار والخلاص من الاحتقان الطائفي وإقصاء قوى الإسلام السياسي من المشهد كليا.

مع كل ما أثير حول مؤسسة "تكوين"، فإن أهدافها المعلنة وخططها المنشورة تشير إلى أنها تبحث عن فكر مستنير وإصلاح فكري، وإرساء احترام الآخر، وهي مبادئ يجاهد السلفيون لمحاربتها

ودرج سلفيون في مصر على تعمد إثارة الاحتقان الطائفي، وآخرها قيام عناصر متشددة بالاعتداء على بعض منازل المسيحيين في قرية الفواخر بمحافظة المنيا جنوب مصر، بذريعة وجود خطة سرية لتحويل بيت مهجور في القرية إلى كنيسة صغيرة، وهي ذات الأزمة التي تتكرر في مناطق متفرقة من حين إلى آخر.

وعوّل الكثير من الأقباط في صمت على مؤسسة “تكوين” لفضح ادعاءات المتطرفين ونقد أفكارهم وكشفهم أمام المجتمع، لكنهم فوجئوا بموقف مغاير من أحد قادة الكنيسة، في وقت لا يزال استهداف المسيحيين مستمرا من قبل متشددين لحضهم على مخاصمة النظام المصري ومناكفته ودفعهم نحو تقويض السلم المجتمعي.

ويظل الإخوان والسلفيون أكثر فصيلين يستفيدان من انتشار التطرف الفكري وترهيب الأقباط، وكلاهما له ثأر مع النظام الحاكم بعد تنحيتهما عن المشهد والتقارب مع الأقباط، ما يعكس تأثير وقوف أيّ قيادة كنسية ضد محاولات نشر الوعي في المجتمع، وما يقدمه ذلك من هدايا لمتشددين بلاوعي أو فهم لمخاطر الاستسلام للأمر الواقع.

وأكد كمال زاخر لـ”العرب” أن المعالجات الفكرية والثقافية السبيل الوحيد للقضاء على المتشددين، وسوف يظل التطرف موجودا بما يقوض جهود الدولة في تكريس المواطنة والحريات الدينية، ويعطل الجهود المرتبطة بترسيخ السلام الاجتماعي.

ولفت إلى أن مؤسسة “تكوين” ارتكبت خطأ كبيرا عندما استعانت بعنصرين أو ثلاثة من المفكرين الأقباط فقط ضمن تشكيلها المعلن، ما بدا للعامة أنها موجهة ضد المتطرفين من الإسلاميين، وهذا خطأ جلب منغصات كثيرة ويجب تداركه بتوسيع قاعدة الانضمام إليها من عناصر وخلفيات دينية وسياسية واجتماعية مختلفة.

وبعيدا عن موقف الأزهر والكنيسة كجهتين دينيتين من “تكوين” سوف تبقى الأزمة في العناصر القيادية التي تتصدر المشهد وتقدم نفسها كناطقة رسمية باسم المسلمين أو الأقباط بلا اكتراث بأن المجتمع ليس في حاجة إلى من يفرض عليه وصايته الدينية أو السياسية، فالشعب المصري الذي انتفض ضد الإخوان قبل سنوات وأبعد الجماعة عن السلطة لن يتخلى عن مدنية الدولة، مهما بلغت سطوة الأزهر أو الكنيسة.

7