قلق في المغرب بسبب تدني الخصوبة

كشف التعداد العام للسكان والسكنى في المغرب عن تراجع نسبة الخصوبة وتقلص نسبة الأطفال والشباب، مقابل تزايد نسبة المسنين ما يهدد المجتمع بالتهرم. ويفرض ارتفاع معدل الشيخوخة وتزايد أعداد المسنين المصابين بأمراض مزمنة على المملكة تحديات أبرزها متطلبات الرعاية الصحية الشاملة والدعم الاجتماعي، وأهمية تعزيز الصحة والوقاية من الأمراض وعلاجها طوال مسار الحياة.
الرباط ـ يشغل تدني الخصوبة وازدياد معدلات الشيخوخة قلق السلطات المختصة في المغرب، بعد أن كشف الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024، انخفاضا متواصلا للنمو الديموغرافي منذ سنة 1982.
ومع انتقال المعدل من 1.24 في المئة في سنة 2014 إلى 0.85 في المئة في 2024، وإذا تواصل هذا التقهقر فمن شأنه أن يؤدي إلى شيخوخة ديموغرافية على المدى الطويل، خصوصا وقد أكدت المندوبية السامية للتخطيط أن عدد السكان في المغرب، حسب نتائج الإحصاء، قد بلغ 36.828.330 نسمة.
وأعلنت المندوبية السامية للتخطيط أن “نسبة السكان البالغين 60 سنة فأكثر ستستمر في الارتفاع، منتقلة من 9.4 في المئة سنة 2014 إلى 12.7 في المئة سنة 2023، ومن المتوقع أن تصل إلى 23.2 في المئة بحلول 2050”.
وتحدثت المندوبية عن أن ارتفاع معدل الشيخوخة والمسنين المصابين بأمراض مزمنة وبالخرف سيفرض تحديات ومتطلبات الرعاية الصحية الشاملة وخدمات الرعاية والدعم الاجتماعي، وأهمية تعزيز الصحة والوقاية من الأمراض وعلاجها طوال مسار الحياة، واعتماد سياسات وتشريعات تحمي حقوق المسنين والمتقاعدين وتضمن كرامتهم.
ومع ارتفاع نسبة الشيخوخة حسب الإحصاء العام للسكان، فالكلفة الاجتماعية والاقتصادية ستكون كبيرة، ولهذا أكد رشيد لزرق، رئيس مركز شمال أفريقيا للدراسات والأبحاث وتقييم السياسات العمومية، على ضرورة تقديم السياسات العمومية ومقاربة التطورات السكانية التي يعرفها المغرب، واستشراف المتطلبات والتطلعات المتغيرة للمغاربة وخصوصا الفئات الشابة، واستثمار ذلك في صياغة سياسات عمومية تتلاءم مع التطورات والتطلعات، بتوفير البيانات التي ستشكل أرضية هامة للتعاطي مع متطلبات فئة المسنين على المستوى الصحي والمادي والنفسي أيضا.
الأرقام أظهرت نموا متزايدا في عدد السكان بالمدن الكبرى، بالإضافة إلى تغيرات في توزيع الأسر
واعتبر رشيد لزرق، في تصريح لـ”العرب”، أن المعطيات التي يوفرها الإحصاء ستكون قيمة في مختلف الجوانب المرتبطة بالعوامل الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بارتفاع نسبة المسنين وتوجيه أصحاب القرار لرسم إستراتيجيات واضحة للتعامل مع التحديات التي ترافق ارتفاع شيخوخة المجتمع وانخفاض الخصوبة من أجل التحسين من الاقتصاد الوطني.
وأكدت أستاذة الاقتصاد والإحصاء والديموغرافيا بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء مريم الفيلالي أنه على عكس بلدان مثل فرنسا وإيطاليا والصين، فالمغرب لم يصل بعد إلى مرحلة “التحول الديموغرافي المتقدم، إذ تتميز هذه البلدان بانخفاض معدلات المواليد بسبب انخفاض الخصوبة، وانخفاض معدلات الوفيات بسبب زيادة متوسط الأعمار المتوقع (مأمول الحياة)، ما يؤدي إلى انقلاب هرم الأعمار.”
وكشفت نتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى عن تحول كبير في التركيبة السكانية للمملكة المغربية، حيث أظهرت الأرقام الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط نموا متزايدا في عدد السكان بالمدن الكبرى، بالإضافة إلى تغيرات في توزيع الأسر وانخفاض متوسط عدد أفرادها.
ويبلغ مؤشر الخصوبة في المغرب 2.5 طفل لكل امرأة في سنة 2024، وهو ما يتجاوز عتبة تجديد الأجيال المحددة عند 2.1، ولذلك يظل معدل الولادات مرتفعا نسبيا، كما يتواصل تزايد عدد الولادات بشكل مستمر منذ عام 2017، رغم استمرار تآكل قاعدة الهرم السكاني وتقلص نسبة الشباب، التي تمثل الأساس المتين والقوي، فضلا عن تراجع نسبة الولادة بشكل عام.
نتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى كشفت عن تحول كبير في التركيبة السكانية للمملكة المغربية
وبالرغم من أن المغرب لا يواجه بعد مشكلة الشيخوخة، فمن الضروري استباق التحول في البنية السكانية، حسب خبراء في الاقتصاد، وفي الوقت الراهن تتمتع المملكة بسكان شباب، لكن هذا المعطى قد يتحول مستقبلا نحو نسبة متزايدة من المسنين.
وفي ظل استمرار تآكل قاعدة الهرم السكاني وتقلص نسبة الشباب، التي تمثل الأساس المتين والقوي، فضلا عن تراجع نسبة الولادة بشكل عام، أكد أحمد الطلحي، الخبير المغربي في البيئة والتنمية والعمارة الإسلامية، في تصريح لـ”العرب”، أن المؤشرات الديموغرافية للمغرب في عمومها مؤشرات مقلقة، خصوصا لبلد يسعى إلى أن ينتقل من مصاف الدول النامية إلى مصاف القوى الصاعدة، مشددا على أن الاقتصاديات القوية هي التي لها أسواق داخلية كبيرة وطاقات عاملة شابة.
وقالت المنظمة الديمقراطية للشغل إن “المغرب لن يخرج عن قاعدة هذا التحول الديموغرافي، حيث يتجه الهرم الديموغرافي إلى الشيخوخة بوتيرة أسرع في السنوات المقبلة، وسيرتفع عدد المسنين في المجتمع في أفق 2030، وهو ما ستؤكده بلا شك نتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024.”
وكشفت دراسة حديثة أصدرتها اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) أنه من المتوقع أن تنخفض نسبة الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 15 سنة في المغرب إلى 17.9 في المئة من مجموع السكان بحلول سنة 2050، بعدما كانت تمثل هذه الفئة العمرية ربع مجموع السكان، مع ارتفاع نسبة الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 60 سنة إلى 15.5 في المئة سنة 2030، وأن القانون المتعلّق بمؤسسات الرعاية الاجتماعية الصادر عام 2018، ساهم في تمهيد الطريق لأشكال جديدة من الخدمات، متيحا للقطاع الخاص إمكانية المساهمة في توفيرها. ويشكل هذا القانون منعطفا هاما في مسار توفير خدمات الرعاية للمسنين في المغرب.
وعلى المستوى المؤسسي، أوصت الدراسة ذاتها، المعنونة بـ”التمكين الاقتصادي للمرأة في الدول العربية: تنمية اقتصاد الرعاية، دراسة حالة عن اقتصاد الخدمات والرعاية المقدمة إلى المسنين بالمغرب”، بضرورة إرساء رؤية إستراتيجية وطنية مشتركة بشأن اقتصاد الرعاية، “كجزء لا يتجزأ من أي رؤية وطنية تهدف إلى التمكين الاقتصادي للمرأة، مع الاعتراف لها بعملها في هذا الإطار وتقليص مدته وإعادة توزيعه”.
ويقدم الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024 لمحة شاملة عن التحولات الديموغرافية الكبيرة في المغرب، مما يساهم في وضع رؤية إستراتيجية متكاملة للسنوات المقبلة، ويساعد على توجيه السياسات العامة بما يتماشى مع احتياجات السكان المتزايدة والتحديات الحضرية المتنامية.
ولفت رشيد لزرق إلى أن نتائج الإحصاء العام تدعو إلى فهم حقيقة الهرم السكاني الذي تنخفض فيه نسبة الشباب، والاهتمام بمعالجة حقيقية لتبعات تأثير المشاكل الاجتماعية والاقتصادية على الخصوبة بالمغرب وحماية الأسرة وتماسكها.
وكانت دراسة اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) المعنونة بـ”التمكين الاقتصادي للمرأة في الدول العربية: تنمية اقتصاد الرعاية”، قد سجلت توقعاتها بارتفاع نسبة الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 60 سنة إلى 15.5 في المئة سنة 2030، و23.2 في المئة بحلول سنة 2050، لتصل إلى 10 ملايين نسمة من مجموع السكان بالمملكة.
واعتبرت الأخصائية النفسية والمتخصصة في العلاقات الأسرية أمينة أسكار أن التداعيات الحاسمة للشيخوخة على المجتمع المغربي كبيرة، مبرزة لـ”العرب” أهمية الدعم الاجتماعي ومساهمة الأجيال المتعددة في ضمان رفاهية هذه الفئة المتنامية من السكان، خصوصا وأن هناك كبار السن النشطين والحيويين، المنخرطين في المجتمع، وآخرين معتمدين على الغير في جميع احتياجاتهم، مما يتطلب حتما تكثيف الدعم الاجتماعي لهذه الفئة.
وحسب المسح الوطني حول السكان وصحة الأسرة، يعيش معظم كبار السن مع عائلاتهم، إما كأرباب للأسرة في منزلهم، أو مع أسرهم الممتدة في مسكن عائلي، وحسب الجنس، يسجل المسح الوطني وجود اختلاف كبير في نسبة كبار السن الذين يعيشون مع أسرهم في مسكن الأسرة، إذ مقابل 6 في المئة من الذكور تعيش 32.8 في المئة من المسنات مع أسرهن. كما يعيش 6.2 في المئة من المسنين بمفردهم.
ويضع هذا التحول الديموغرافي، الذي يتسم بتحسن طول العمر، المرتبط بالانتقال من الأسرة الواسعة إلى الأسرة النواة، التضامن والتعايش بين الأجيال على المحك، إذ تشهد روابط التكافل بين أفراد الأسرة، والتي لا تزال حاضرة في الوسط القروي، تراجعا مع مرور السنين في الحواضر الكبرى، مما يفاقم شعور المسنين بالهشاشة واحتياجاتهم العاطفية والمالية.