قلب تونس ينبض من جديد

أخيرا، استعادت العاصمة تونس قلبها النابض من جديد.
أذكر أول مرّة مشيت فيها بشارع الحبيب بورقيبة، (الأفيني) كما يسميه التونسيون. كان الوقت متأخرا، وكنت قد وصلت من المطار قادما من لندن في أول زيارة لتونس، كان ذلك قبل أكثر من عشرين عاما.
كان الأفيني شبه خال إلا من عمال نظافة يغسلون أرضه بالماء ورغوة الصابون.
سرعان ما تعلق قلبي بالشارع ومقاهيه المنتشرة على الجانبين، وفنادقه التي يرتادها المثقفون والفنانون ورجال الأعمال في مناسبات هي كثيرة في تونس.
كانت تونس حينها تفاخر عواصم العالم بعدد المهرجانات والندوات والمؤتمرات التي تستضيفها.
على مدار عشر سنوات أدمنت الجلوس في بهو فندق الهناء الدولي، وفي مقهى أبوعلي التابع لنفس الفندق، أو كنت أقطع الشارع إلى الجانب الآخر لأجلس في مقهى باريس العريق أو في بهو فندق أفريقيا.
وعندما ينهشني الجوع كنت ألج إلى شارع مرسيليا “رو دي مارساي” وأتناول وجبة طعام من إعداد الشيف خالد العرفاوي في مطعمه المعروف باسم “شينو” (عندنا). ولن أبالغ إن قلت إن أفضل طعام يمكن أن تتذوقه، ليس فقط في تونس، بل في شمال أفريقيا.
في 17 ديسمبر 2010 أضرم شاب من مدينة سيدي بوزيد النار في نفسه، وكأنما أضرم النار في تونس لتندلع الثورة التي أسفرت عن سقوط نظام زين العابدين بن علي في 14 يناير 2011.
يومها استفاقت تونس على صوت المحامي والحقوقي عبدالناصر العويني يهتف بأعلى صوته في شوارع تونس بعد الإعلان عن مغادرة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي البلاد: بن علي هرب.. بن علي هرب.. لتصبح هذه الكلمات رمزا لما سُمّي فيما بعد بالـ”اللحظة التاريخية”.
بعد شهر أمضيته في حلق الوادي بعيدا عن وسط العاصمة، غادرت تونس عائدا إلى لندن، وقد خلفت ورائي قطعة من نفسي، ولكن الشوق عاد بي إلى تونس بعد عشرة أشهر من الغياب.
أول مكان قصدته كان الأفيني.. وجوه التونسيين كانت متفائلة تعلوها الفرحة والحماس. كان واضحا أنهم يستمتعون بالحرية التي اكتسبوها، بينما الحزن واضح على كل التفاصيل في شارع الحبيب بورقيبة، وكأنما به قد هرم فجأة.
أسلاك شائكة وحواجز إسمنتية تملأ المكان فرضتها الظروف الأمنية، في بلد لم يعرف عنه بعد نيله للاستقلال سوى الأمن والأمان.
منذ تلك اللحظة تبدل كل شيء، وكان أكبر شاهد على هذا التبدل، إغلاق مطعم “شينو”، وإغلاق فندق الهناء ومقهى أبوعلي، وغياب السياح الذين كانت أفواجهم تملأ المنطقة في الماضي.
الشارع الذي أدمنته طيلة عشرة أعوام، حاولت أن أتجنب زيارته طيلة 12 عاما. إلى أن جاء فجأة ودون أيّ تمهيد، خبر جعلني أقفز من مكاني، وأبحث في وسائل الإعلام عما يؤكده.
نعم الخبر صحيح، زار الرئيس التونسي قيس سعيد الأفيني واجتمع بوزير الداخلية وانتهى الاجتماع بقرار رفع الحواجز الإسمنتية والأسلاك الشائكة من الشارع.
في الساعة السادسة والنصف صباح يوم 21 مارس 2024 كنت أسير في الأفيني، يغمرني الفرح وأنا أرى عمال النظافة يغسلون الشارع بالماء والصابون.. تماما كما رأيتهم يفعلون ذلك منذ 22 عاما.
عاد قلب تونس ينبض من جديد.