قفة رمضان.. الوجه الآخر للأزمة في الجزائر

صحيح أن منحة البطالة مبادرة فريدة في العالم العربي لكن هناك فرق كبير بين أن تتكفل الحكومة بالفئات الاجتماعية الهشة وبين تحويل المساعدات الاجتماعية إلى ثقافة نهب وتحايل وبيروقراطية.
الاثنين 2023/03/27
ربع التركيبة البشرية في المجتمع تتخبط في الفقر

لا تزال التحويلات الاجتماعية الضخمة التي ترصدها الحكومة سنويا لفائدة الفئات الهشة الغطاء الذي تتدثر به السلطة لتسويق خطاب الدولة الاجتماعي الموروث عن عقيدة ثورة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي، لكن في المقابل لا توجد إرادة لكشف المستور وملامسة الحقيقة المؤلمة.

عشية حلول شهر رمضان تداولت الدوائر الاجتماعية في الحكومة تقارير عن تكفل الحكومة بنحو ثلاثة ملايين عائلة جزائرية في إطار ما يعرف بـ”قفة رمضان”، وهو التقليد الذي دأبت عليه الحكومات المتعاقبة منذ عقود، للتخفيف من العبء الاجتماعي والاقتصادي عن الفئات المذكورة.

ولما كان الفساد مرضا ينخر كل شيء في البلاد، فقد امتدت أيدي المفسدين إلى قوت الفقراء والمساكين، عبر الطابع العيني لتلك المساعدات، فقد اهتدت إلى صب مساعدات مالية تقدر بنحو 70 دولارا للمستفيدين، تفاديا للحواجز الإدارية والنفوس المريضة، وأعلن عن استفادة 2.7 مليون عائلة جزائرية.

◙ الحكومة رصدت موازنة مالية وصفت بـ"الضخمة" و"التاريخية"، لكن ملاحظة بسيطة في بياناتها تكشف أن الاهتمام وجه إلى شؤون الدفاع والتسليح

التقليد محمود ومحسوب لـ”حسنات” الحكومة، لكن المذموم هو التوظيف السياسي له كأنه مكسب خارق والمساس بكرامة هؤلاء، خاصة أن الوضع الاجتماعي للكثير من الجزائريين بات مصدر تسلق سياسي واجتماعي لـ”مناضلين” انتهازيين، تركوا كل القنوات العادية للنضال ولم يجدوا إلا التباهي بصور “السيلفي” أو تسجيلات على شبكات التواصل الاجتماعي.

الحقيقة المرة أن السؤال الغائب عن النخب الحاكمة هو لماذا مؤشر التحويلات الاجتماعية في صعود مطرد؟ قرابة ثلاثة ملايين عائلة جزائرية استفادت من مساعدات شهر رمضان، يفضي ذلك إلى أن هناك نحو عشرة ملايين جزائري غير قادرين على التكفل الذاتي بحياتهم الاجتماعية، وفي حاجة دائمة إلى مساعدات الدولة، وهو ما يعني أن ربع التركيبة البشرية في المجتمع تتخبط في الفقر.

التكافل الاجتماعي في الجزائر سنّة محمودة تحسب لأهلها، فعلاوة على جهد الحكومة هناك جهود الجمعيات والمحسنين ورجال المال، بما يوحي بأن الخارطة قابلة للتوسع إلى أعداد أخرى من المحتاجين، وهو ما يشير إلى أن الأمر يخفي وراءه أزمة اجتماعية واقتصادية ما فتئت تتمدد أفقيا بعيدا عن الطرح الشجاع والحلول الحقيقية، لأن العبرة في مثل هذه الأوضاع ليست التغني بالتقليد الرسمي والشعبي الراسخ، وإنما في التحلي بالجرأة ومواجهة حقيقة تفشي الفقر وتزايد الفقراء.

ولعل أبرز مؤشر على ضرورة إطلاق جرس الإنذار أن الحكومة التي ترصد نحو مليوني منحة بطالة لم توفر خلال العام الماضي إلا نحو 60 ألف منصب شغل لهؤلاء، دون الحديث عن 250 ألف طالب يتخرجون سنويا من الجامعات، وهو تراكم للبطالة لا يكفي معه أي تحويل اجتماعي، إذا لم يتركز الاهتمام على النهوض بالاقتصاد وخلق الثروة ومناصب الشغل.

صحيح أن منحة البطالة هي مبادرة فريدة في العالم العربي، لكن أن يتم تسويقها على أنها إنجاز كبير، بينما يتم التغافل عن مناصب الشغل المستحدثة، يجعلها مؤشرا على الاختلال الاقتصادي. فالعبرة ليست في عدد المستفيدين ولا في التشجيع على الكسل، أو افتكاك عبارات المديح للسلطة، وإنما في تقليصها تدريجيا لأن المشطوبين حازوا مناصب شغل، وليس لأنهم زوّروا ملفات الاستفادة.

هناك فرق كبير بين أن تتكفل الحكومة بالفئات الاجتماعية الهشة، وبين تحويل المساعدات الاجتماعية إلى ثقافة نهب وتحايل وبيروقراطية، فالمواطن البسيط يعبّئ خزان سيارته ببنزين سعره مدعم، هو نفسه السعر الذي تعبئ به الشركات الكبرى خزانات أسطولها من السيارات والشاحنات والمركبات لممارسة أشغالها.

◙ عشية حلول شهر رمضان تداولت الدوائر الاجتماعية في الحكومة تقارير عن تكفل الحكومة بنحو ثلاثة ملايين عائلة جزائرية في إطار ما يعرف بـ"قفة رمضان"

وفي المحصلة أن الحكومات المتعاقبة لا تزال تتصرف بجبن تجاه الجبهة الاجتماعية، وبدل مواجهة الحقيقة والذهاب إلى حلول جذرية، يتم في كل مرة الاختفاء وراء الطابع الاجتماعي للدولة، ولم يجرؤ أي كادر أو مؤسسة على إثارة دلالات ارتفاع أرقام المساعدات الاجتماعية خلال شهر رمضان، فرغم المساهمة الرسمية والشعبية في العملية، إلا أن هناك من المحتاجين من لم يسعفه الحظ، وهو ما يعني أن خارطة الفقر في توسع مطرد.

ووفق أدبيات علم الاقتصاد، فإن مؤشرات الاقتصاد الكلي المريحة للدولة منذ تقلب أسواق الطاقة نتيجة الأزمة الأوكرانية، لا تتوافق ومؤشرات الاقتصاد الجزئي. فالعائدات والحسابات والتوازنات المالية الكبرى، لم تنعكس على الحياة اليومية لقطاع كبير من الجزائريين، واللجوء إلى الحلول السريعة وأموال الريع حجب الرؤية والاهتمام بالشأن الاقتصادي، لأن بيانات البطالة والتضخم المتداولة لا تترجم أرقام منحة البطالة وقفة رمضان والمنح المدرسية.

الحكومة رصدت موازنة مالية وصفت بـ”الضخمة” و”التاريخية”، لكن ملاحظة بسيطة في بياناتها تكشف أن الاهتمام وجه إلى شؤون الدفاع والتسليح، وإلى قطاع التجهيز أكثر من الاستثمار، من أجل التكفل بأعباء المنح ورفع الرواتب والمعاشات. لكن الإشكال الآن هو مصير ووضع من هو دون راتب ولا معاش ولا منحة، أو من يتقاضى 100 أو 200 دولار في الشهر.

هذا هو الاختلال الذي يجري التغافل عنه. استفادة عشرة ملايين جزائري من المساهمة الرمزية خلال شهر رمضان هي مؤشر على أزمة ترتيب الأولويات، ما دام لا أحد ولا جهة تحدثا عن وجوب تقليص الرقم خلال رمضان القادم بالتركيز على تشغيل بعض هؤلاء. لأن الحل في توفير دخل ثابت وليس في استمرار إنهاك الخزينة العمومية.

9