قصيدة تحولت إلى كنز قشتالي

عبير عبدالحافظ: مرثية مانريكي أهم أبيات شعر كتبت بالإسبانية.
الثلاثاء 2022/04/12
خورخي مانريكي تأثر بالشعر العربي

تبدو تأثيرات الشعر العربي، الذي بلغ مع مرحلة الأندلس درجة هامة من الوعي والنضج، واضحة في قصائد أهم الشعراء الإسبان المؤثرين، على غرار خورخي مانريكي، ولكن الكثير من الباحثين والشعراء يغفلون عن التأثير الأندلسي في الشعر الإسباني المؤسس.

تحتفي الباحثة والناقدة والمترجمة عبير عبدالحافظ، أستاذة اللغة الإسبانية وآدابها في جامعة القاهرة، بنص الشاعر الإسباني خورخي مانريكي ( 1440 ـ 1479) “مرثية موت أبيه”، حيث صدّرت ترجمتها له بكلمة للمستعرب الإسباني عضو المجمع الملكي للغة الإسبانية البروفيسور فديريكو كورينتي، ومقدمة ودراسة لها حول النص، مؤكدة أن هناك إجماعا على أن “هذا العمل الأعظم، هو أجمل وأبلغ أبيات شعر كتبت بالإسبانية قاطبة حتى الوقت الراهن، وأنه على الرغم من القيمة التاريخية والإنسانية التي يتبوؤها هذا النص الرصين، إلا أنه لم يترجم إلى اللغة العربية من قبل”.

وترى أن الشعراء في كل من إسبانيا وأميركا اللاتينية اعتبروا قصيدة مانريكي ظاهرة لغوية وبلاغية معجزة، ليس فقط في عصر ظهورها وما تلاه بل في كل العصور. وقد استلهمها بعضهم مثل خيراردو دييغو من جيل شعراء الـ27 في إسبانيا، وكتب الشاعر التشيلي الحائز جائزة نوبل في الأدب بابلو نيرودا قصيدة وجهها إلى خورخي مانريكي عام 1965، وكذلك فعل الشاعر الإسباني بلاس دي أوتيرو، وغيرهما من الشعراء.

مرثية خالدة

نص توثيقي تاريخي ومجتمعي يرصد حقبة في غاية الأهمية من التاريخ الإنساني

تقول عبدالحافظ عن نص “مرثية موت أبيه” الصادر عن دار بتانة إن “هذا الكنز القشتالي لا تقتصر أهميته على ما يحمل من معان إنسانية بليغة وفكر فلسفي وبلاغة شعرية ورصانة لغوية تفوق الحدود، فحسب، بل يشتمل على أهمية عظيمة بصفته نصاً توثيقياً تاريخياً ومجتمعياً يرصد حقبة في غاية الأهمية من التاريخ الإنساني بشكل عام والمشرقي الغربي خصوصاً، بعبارة أخرى التلاقح الفكري والثقافي والمجتمعي والديني المسيحي الإسلامي واليهودي من جهة أخرى”.

وتضيف أن قصيدة “مرثية موت أبيه” تنتمي إلى النصوص الكلاسيكية الإسبانية ضمن أدب العصور الوسطى، وهي من شعر الرثاء الشهير في الشعر العربي منذ القدم. وأجمع دارسون ونقاد وأكاديميون ومترجمون للدراسات الإسبانية في العالم على أن هذا العمل العظيم هو أجمل وأبلغ قصيدة رثائية كتبت بالإسبانية قاطبة حتى الوقت الراهن. وكانت مناسبة القصيدة وفاة أبي الشاعر الفارس دون رودريغو، الذي كانت له صولات وجولات في المواقع والحروب خلال حكم الملك خوان الثاني.

ويبدأ الشاعر قصيدته منطلقا من ناصية يغلب عليها الزهد والتصوف، فيخاطب النفس اللاهية ليجعلها تستفيق وتتيقظ لتتأمل الحياة في معناها. فيقلل من شأن الحياة ويعظم من شأن الآخرة ويسوق العديد من الأمثلة الهادفة إلى الدفع نحو أصلية العالم الآخر. ونجده ينتقل بعد المقدمة إلى الحديث عن مآثر أبيه كفارس، وإيمانه وثباته على مبادئه، ونبذه للثروة والجاه وحياة القصور. وبعد أن يسوق حججه يعطي الكلمة لأبيه دون رودريغو ليسوق بدوره حججه وليصوغ بشكل آخر المعاني التي طرحها ابنه بحديثه عن زوال الدنيا وبقاء الآخرة وإذعانه لتقبل مصير الموت، يقول “أن يريد المرء الحياة فيما يريد الرب مماته،/ فهذا ضرب من الجنون”.

ثم يتوجه إلى يد المسيح يطلب غفرانه ورحمته، ويختتم الشاعر المقطوعات بخاتمة سردية تصور مشهد موت الفارس الأب في بيته بكامل حواسه مكرما ومحاطا بزوجته وأبنائه وخدمه، تاركا ذاكرة راسخة وذكرى عطرة ونموذجا لمحبيه.

وقد تناول العديد من الباحثين من إسبانيا وأميركا اللاتينية والولايات المتحدة هذا النص “مرثية موت أبيه”، حتى أن العديد من الشعراء مثل بيدرو ساليناس من أهم شعراء جيل الـ27 كتب عنه دراسة بعنوان “خورخي مانريكي.. التراث والأصالة” ونشرت عام 1947 في طبعتها الأولى، وتوالت الدراسات والقصائد فكتب الشاعر التشيلي بابلو نيرودا الحائز على نوبل للأدب قصيدة شهيرة يخاطب فيها خورخي مانريكي. غير أن أغلب الدراسات والتعليقات التي تناولت النتاج الشعري لخورخي مانريكي استبعدت أو تجاهلت بقصد أو عن غير قصد تأثير الشعر العربي الأندلسي والملامح العربية الإسلامية في القصيدة، باستثناء الناقد والباحث الشهير أميركو كاسترو الذي أعد دراسة بعنوان “المسيحية والإسلام في شعر خورخي مانريكي”.

وتوضح عبدالحافظ أن أعمال خورخي مانريكي تشتمل على 2300 بيت شعر، انقسمت إلى ثلاثة جوانب هي: شعر الحب، الشعر الهجائي، شعر الحكمة (الأخلاقي أو الفلسفي). ويمثل شعر الحب مجمل نتاج مانريكي، إلا أنه اتصف بالنمطية ولم يمثل الأصالة الشعرية التي رسخت لها قصيدته “مرثية موت أبيه”، بل يمكن اعتباره شعر البلاط التقليدي، وعلى ما يبدو لم يضف الكثير إلى قامة مانريكي الشعرية. وفي إحدى قصائده القائمة على الحوار، يطلب الشاعر تحقيق غرضه كمحب مقابل أن يستمر في طاعة الرب، حيث يقول “بقدرتك وجبروتك عليك أن تتحلى بالعدل/ إذا وهبتني ما أطلب منك/ سأجثو على ركبتي طائعا/ وأخدمك من مكنون عيوني/ لم آمن إلا بك/ منذ أدركت وجودك/ إن كنت أبدو خاطئا/ فكيف أشكو من خدمت؟”.

وترى عبدالحافظ أن الشعر الهجائي يقتصر على ثلاث قصائد. أما شعر المثل أو الأخلاق فيشتمل على “مرثية موت أبيه” البالغ عدد أبياتها 480 بيتا، ولعل تقسيم بناء القصيدة في أربعين مقطوعة قد يتصل من قريب أو بعيد بشعيرة الأربعين ومدلول رقم الأربعين في التراث العربي الإسلامي.

تأثيرات عربية

Thumbnail

تبين المترجمة أنه من اللافت للانتباه أن النقاد يعتبرون المرثية دليلا دامغا على سمة أصيلة في الشعر الإسباني ألا وهي اختلافه عن الشعر في دول أوروبية أخرى، من حيث غياب فواصل قاطعة أو حاسمة ما بين شعر العصور الوسطى وشعر النهضة، وربما يكون هذا دليلا آخر على خصوصية الشعر الإسباني في ما يتعلق بالمنابع التي نهل منها وأكسبته هذه الوحدة والخصوصية التي لازمته، حتى أن الشاعر والأكاديمي الأميركي بيلي كولينز صنفه ضمن نصوص العصر الذهبي الإسباني. وبتأمل الثابت في هذا الشأن نجد الوجود العربي الإسلامي الأندلسي ثابتا من الثوابت التي توازت وتقاطعت مع تشكل المشهد الشعري في إسبانيا، ويذكر الناقد خ. ب. أبايي أكري “في إسبانيا لم يكن هناك فرق واضح ما بين العصور الوسطى وعصر النهضة”.

وتلفت إلى أن شعر هذه الحقبة من حيث الشكل العام والعناصر الظاهرية السطحية قروسطي، أما المحتوى فمتجدد؛ حيث الإنسان مركز الكون، وبهذه الصورة يكون متمردا على إقصاء الإنسان من مشهد الكون والحياة نتيجة التأثر بفكرة الخطيئة الكبرى التي سادت دول أوروبا نتاج الفكر المسيحي. وربما تطرح هذه المرثية تأمل فكرة الموت من منظور مجدد للمنظور النمطي المسيحي، فإعلاء شأن النفس، والتأمل والتدبر ونبذ نعيم الدنيا وزخرفها مع الأخذ بالأسباب وأداء الدور المنوط بالفرد في محيطه على المستوى الوطني الأسري والتضحية بالذات تقترب من شعر الزهد مثل شعر أبي العلاء المعري وأبي العتاهية وغيرهما.

 وقد درس العلامة المستعرب الإسباني ميغيل أسين بالاثيوس في مؤلفاته الجامعة أصول الشعر الإسباني في القرن العاشر، وقام بتحقيق ودراسة ديوان ابن قزمان القرطبي، فضلا عن دراسته التأثير العربي الإسلامي في عموم أوروبا وغيرها من الدراسات الكاشفة، والتي تجاهلتها معظم المراجع، وقد عالجت مرثية خورخي مانريكي ووفرت قراءتها جهدا للبحث عن إجابات واضحة.

أغلب الدراسات والتعليقات التي تناولت النتاج الشعري لخورخي مانريكي استبعدت أو تجاهلت تأثير الشعر العربي الأندلسي

وتتابع عبدالحافظ أن مرثية الموت لمانريكي تستوقف الشاعر الإسباني لويس ثيرنودا (1902 – 1963) وهو من شعراء جيل الـ27 في إسبانيا، فيطرح التساؤل التالي: هل مقطوعات مانريكي في رثاء أبيه نتاج مرحلة بصدد الاختفاء أم نقطة انطلاق لحقبة جديدة في طور النشوء؟ وهو بذلك يتساءل في عبارة أخرى عن مفهوم الموت الذي تؤطر له هذه القصيدة، هل هو انتهاء الحياة والوصول إلى نقطة العدمية أم أن الموت بداية لحياة الخلود؟ وهو تساؤل فلسفي يبرز “الزمن” فيه كالمحرك الأول. وتتبلور فكرة الزمن في ثلاثة محاور زمنية: الحاضر، الماضي، المستقبل، يقول الشاعر “تذكر النفس النائمة،/ استنهض عقلك وتيقظ متأملا كيف تمر الحياة،/ كيف يقبل الموت صامتا هكذا؟/ كيف تمضي المتعة على عجل؟/ كيف يحضر الألم، بعد أن يستوي العقل؟/ كيف أنه كما بدا لنا؟/ فأي وقت مضى كان َ دائما الأفضل”.

وتؤكد عبدالحافظ أن المحاور الثلاثة لشعر مانريكي تتأثر بموتيفات شعرية متوالية، ما بين تأمل زوال الحياة والأشياء مثلما جاء في الإنجيل “فناء الفناء”، ويكون الإنسان مشاركا وشاهدا لهذا الفناء، أي لانتهاء الأشياء والزمن، مع فكرة الثراء والرغبة في حيازة الثروات الفانية، وهو ما يعالجه الشاعر خوان دي لا مينا المولود بقرطبة في ديوانه “متاهة الثروة” وتركيزه على فكرة تشخيص الموت. ويفسر أميركو كاسترو تطور فكرة الموت في شعر العصور الوسطى على هذا النحو الدقيق “برزت فكرة الموت في القرن الخامس عشر بالتوازي مع المفهوم الجديد للحياة عند الإنسان بشكل أكثر خفة وانطلاقا في التفكير والإحساس. وفي الوقت الذي أصبحت الحياة فيه أكثر استيعابا لمباهج جاذبة اكتسبت فكرة فنائها أهمية بالغة”.

وفي إطار هذا المفهوم عن الموت ما بين العصور الوسطى وتطور فكرته في طريقه إلى عصر النهضة، تأتي أربعينية مانريكي بمثابة تجسيد لشعر الرثاء، إلى جانب الأفكار الأخرى التي تطرحها الأبيات، مثل المفهوم الفلسفي للوجود والحياة والموت، وتمجيد مآثر الفارس من ناحية، ومكانة الأب من ناحية أخرى.

واستكمالا لتطور فكرة الموت يعلق الناقد الإسباني رافائيل لابيسا (1908 – 2001 )، ملقيا الضوء على شعر الرثاء في نموذج خوان رويث (1283 – 1351) في كتابه الشهير “كتاب الحب الطيب، بقوله إن “تناول فكرة الموت عند خوان رويث لا يستند على الرؤية التقليدية للعصور الوسطى التي كانت تربط ما بين الخير والروح، والشر والجسد، بل يؤسس لبعدين آخرين هما الحياة والموت، فمنظومة القيم الفاعلة في قصيدته مختلفة. بهذا الشكل نحن إزاء خطوة متقدمة لفهم الحواس أساسها في الوثنية التي برزت في عصر النهضة”. وتشير الباحثة كارمن دياث كاستانيون في دراستها القيمة الموجزة عن مرثية مانريكي والتي استعرضت فيها آراء العديد من الباحثين والشعراء إلى “ديوان باينا” الذي يقدم فيه شعر الرثاء للشاعر غونثالو مارتينيث دي ميدينا. ومن أشهر قصائد الرثاء في الديوان، قصيدة كتبها الشاعر فيران سانشيز دي كلابيرا في رثاء الفارس روي دياث دي ميندوثا، ويغلب عليها طابع التأمل بشكل عام، فيقول الشاعر “الآباء والأبناء والأشقاء والأقارب/ أصدقاء وصديقات طالما أحببناهم/ معهم طعمنا وشربنا وفاضت سعادتنا”.

مقتطفات من المرثية

حياتنا أنهار تصب في بحر،

هو الموت،

هناك يذهب السادة

دون توان إلى نهايتهم؛

وإلى الفناء؛

هناك الآخرون.. أواسط

وأكثر شبابا؛

وأكثر حضورا، متساوون،

هؤلاء الذين يعيشون من كد أيديهم

والأغنياء.

***

أهجر الابتهالات

ابتهالات الشعراء الأشهر،

والوعاظ؛

لا أطيب من خيالاتهم،

يجلبون الأعشاب السرية

بعرفها،

غير أنني لا أبتهل سوى للحق

فهذا العالم زاخر بالحياة

لم يدرك قداسته. 

 

14