قصص مصرية تستلهم الإرث الفرعوني وتستحضر أرواح الأسلاف

الكاتبة المصرية منّة الله سامي تعود في كتاباتها إلى الأساطير المصرية حينا والبابلية حينا آخر محمّلة إياها دلالات رمزية جديدة تتصل بواقعها اليوم.
السبت 2019/01/12
أساطير فرعونية تعيش في الواقع

رغم هيمنة التكنولوجيات الحديثة وغرق الإنسان في عصر العولمة الذي أفرغه من معناه، كذات فريدة خارج ما هو مادي، فإن ميل الإنسان إلى الخيال وإلى التجريد والأساطير مازال راسخا في أعماقه، لكنه ربما تحوّل اليوم ليصبح وكأنه فعل مقاومة لزمن أكثر حركية مما كان عليه.

اختارت الكاتبة المصرية منّة الله سامي “كِمِت” عنوانا لآخر مجموعة قصصية لها، وهو عنوان مأخوذ من القبطية “كِمِت” ومعناه الأرض السوداء كناية عن الخصب. وذلك المعنى هو ما أشارت إليه في العنوان الفرعي المصاحب للعنوان الرئيسي “قصص من الأرض السوداء”. وفعلا لقد كانت أرض الستّ والعشرين قصة المضمومة في هذه المجموعة، أرضا سوداء خصبة بثمار الدلالات، معطاءة بنعم المعنى.

عودة الأساطير

يتضح لمن يقرأ مجموعات منة الله سامي الستّ أنّ استثمارها الأساطير الإنسانية الكبرى ملمح فنيّ قار لديها. فهي كثيرا ما عادت في قصصها إلى الأساطير المصرية حينا والبابلية حينا آخر محاورة لها معيدة كتابتها، محمّلة إياها دلالات رمزية جديدة تتصل بواقعها اليوم وبمشاغل الإنسان المصري والعربي الحضارية والاجتماعية. فإذا بالأسطورة القديمة تنطق بلغة جديدة عليها معاصرة للقارئ، تحمل أصداء مما يفكر فيه ويشغله أناء ليله وأطراف نهاره.

وقد رأينا المؤلفة تعمد إلى هذا المسلك في قصتين من قصص المجموعة هما “سطوة الكهنة” و”كمت”، فعادت فيهما إلى عوالم الأساطير الفرعونية. ولكننا لا نكاد نستقل مركبة الزمن ونستدعي العصور الفرعونية القديمة حتى تبتر الراوية بقوة وحسم مسار رحلتنا وتعيدنا في عنف إلى زمننا نحن، رامية إيانا على أرضية الواقع المعاصر ناقضة عنا كل وهم بالخروج عن عصرنا.

 فبينما ننغمس في متابعة زيارة نفرتيتي للكهنة في القصة الأولى، إذ بالراوية تقطع عنا هذه المتابعة وتخبرنا فجأة أنّ الفتاة التي حسبناها نفرتيتي قد انبعثت ذبذبات هاتفها المحمول فهزتها واقتلعتها “من بين السماء والأرض”.

 أما في القصة الثانية فالرحلة معكوسة، إذ نبدأ القصة مع شخصيات من الواقع الراهن تقوم بعملية تحضير الأرواح ثم ما نلبث أن نجد أنفسنا ندخل دهاليز العصور الفرعونية ونلاقي إيزيس تقود أحمد إلى غرف المومياوات ونرى مومياء رمسيس الثاني ترتفع في “السماء وسط عيون ذاهلة وطلقات نارية طائشة !”.

كون من العجيب والغريب فهذه القصص تزيد قراءتها المرء معرفة بواقعه الراهن وبالأنساق الرمزية والحضارية المحيطة به
كون من العجيب والغريب فهذه القصص تزيد قراءتها المرء معرفة بواقعه الراهن وبالأنساق الرمزية والحضارية المحيطة به

إنّه من العسير جدا أن نفصل بين وعي الإنسان المعاصر بلحظته التاريخية التي يعيش، واستحضاره في أعمق أغوار كيانه لتراثه الأسطوري الإنساني الذي صاغ رموزه الحضارية والثقافية وبنى وجدانه العاطفي وقدراته الذهنية منذ سحيق الأزمنة. تلكم هي الرسالة التي ما انفكت منة الله سامي تسرّبها إلى قرائها في ما تكتب من قصص. إنّ الأسطورة تحيا معنا وتتحرك بجانبنا وتسكن فينا. ولئن جعلنا العصر التكنولوجي المادي الاستهلاكي نغتر بقدراتنا الوسائطية المادية، ونحسب أننا قد سيطرنا على الواقع، وذلّلنا الطبيعة، فما ذلك في الحقيقة إلا وهم وسراب. فما زالت حياتنا اليومية تسير بإيقاع من الأساطير، وما زالت مواسمنا وأعيادنا تستلهم نظمها من أساطير الخصب، وما زلنا نقتبل أفراحنا وأتراحنا مستعينين بأساطير الموت والحياة.

العجيب والغريب

بيد أنّ الملمح الفنيّ الأبرز في مجموعة “كمت” في ما يتصل بتعامل المؤلفة مع الأساطير والذي غلب على العدد الأكبر من قصصها، إنما هو الاعتناء بتتبع مظاهر غريبة عجيبة من الواقع اليومي المعاصر، الآن وهنا، تثبت أنّ لعصرنا الحالي أيضا أساطيره وخرافاته. والقارئ في هذا السياق لا ينفك عن الدهشة والانبهار من قصة إلى أخرى وهو يتابع ما يروى له من أحداث ومصائر وتقلبات حياتية انساق إليها أشخاص بسطاء مهمّشون. فإذا به يضع يديه عما يكمن تحت سطح السرد من طبقات دلالية معقدة تؤكد أنّ الأسطورة محيطة بنا محاصرة لكل ثانية من ثواني أعمارنا، نابعة من تفاصيل حياتنا اليومية التافهة في أغلب الحالات.

ففي قلب المدينة المعاصرة الضاجة بسياراتها وهواتفها، السالبة لبّ أهاليها وأحاسيسهم وحركاتهم لا يكفون عن الجري والتنقل في متاهاتها، في قلب هذه المدينة نفسها، القاسية الخاوية من المعنى الفقيرة إلى الجمال الطاردة للشاعرية، تفاجئنا قصص منة الله فتكشف لنا ما يوجد في زوايا من هذه المدينة وفي زوايا من قلوب أهلها من أعاجيب مبهرة تدفعنا إلى مراجعة كل تصوراتنا عن ذواتنا والوجود. إذ نصادف في هذه القصص عالما جديدا علينا بكرا تتعملق فيه العناكب، ويُشقّ رأس من يجري خلف الفراشات، ويقصد أحدهم اليمّ يريد أن يصطاد سمكة فإذا بالسمكة تصطاده ويغدو هو طريدة للصنارة، وتتراءى رؤوس البشر فوق صفحة القمر، ويخرج المارد من القمقم، ويسافر الناس عبر الأزمنة، ويلتقي الجد حفيده وقد طعن في السن وأصبح أكبر منه…

كون من العجيب والغريب فهذه القصص تزيد قراءتها المرء معرفة بواقعه الراهن وخبرة بالأنساق التاريخية والرمزية والحضارية المحيطة به. ذلك أنها تكشف له أنّ مساعي الحضارة الرأسمالية الاستهلاكية الحديثة إلى قولبة الإنسان المعاصر وتنميطه بغية السيطرة على أذواقه ونزعاته ومعاييره للسعادة واللذة والألم وتوجيهها والتحكم فيها واستثمار كل ذلك اقتصاديا، لم تنجح تمام النجاح. فما زال هذا الإنسان يحمل بين جوانحه ميلا فطريا إلى التخييل وإعادة تشكيل الوجود رمزيا، ورغبة قديمة متجددة كرغبة أسلافه القدامى في الخلود ومناطحة الآلهة وافتكاك نار الأولمب.

ولا شكّ في أنّ نجاح المؤلفة لا في استدعاء الأساطير وإعادة كتابتها من جديد فحسب، بل في خلق أساطير جديدة نابعة من مبتكر عوالمها القصصية، إن هو إلا دليل على فتنة القصة القصيرة وسحرها وقدرتها الغريبة على أن تختزل العالم في عدد قليل من الأسطر، وأن تأتي كالسنابل الناضجة مثقلة بالدلالات، وأن تهب الإنسان منحا زمنية تجعله قادرا على أن يتجدد ويزيل عنه الصدأ ويستعيد الفردوس المفقود حيث القول والفعل شيء واحد وحيث الشعر والاستعارة توأم للحقيقة.

14