قصتي مع الزرافة

كائن يروي ويروي دون انقطاع مثل خَيْلف مقهور وقد استعار صوتا يروي به أوجاعه، إلى أن توقف بسبب موعد الغداء.
الثلاثاء 2022/02/01
"زرافة" حيوان غريب محتشم الحضور 

“سأمسك بجهاز العداد الرقمي ونقوم بمسابقة تتمثل في تكليف كل واحد منكم بالتحدث عن أول كلمة في صفحة سنختارها بصفة عشوائية من هذا القاموس، والفائز هو من يستمر أكثر من غيره في سرد كل ما يتعلق بالكلمة التي تظهر له بالمصادفة، دون تكرار أو توقف”.

كان هذا ما كلفتنا به السيدة ماري، وهي أميركية متخصصة في كتابة السيناريو، ضمن ورشة عمل في مدينة برشلونة.

كان عددنا لا يتجاوز أصابع اليدين، ومن جنسيات مختلفة. وينبغي الاعتراف بأن هذا الامتحان في غاية الصعوبة، خصوصا إذا لم يحالفك الحظ وأفرز السحب العشوائي من القاموس كلمة لا يمكن الاستطالة فيها، علما أن التوجه التراجيكومدي، شرط أساسي في بناء هذه السردية.

جاء دوري فبدأت بالنظر متوجّسا إلى ذاك القاموس السميك، ذي الأحرف اللاتينية المفتوحة على بحر من الاحتمالات.

فتحت السيدة ماري الكتاب، فطلعت لي كلمة “زرافة”.. يا للمشقة، كيف سأدخل في المنافسة بحيوان غريب عن بيئتي، ومحتشم الحضور في القصص الشعبية، على عكس الذئاب والثعالب والأرانب والسلاحف وبنات آوى.

حسنا، سأرتمي في الحكاية كمن يسبح أول مرة وقد غرق القارب وابتعد الشاطئ.

سأبدأ الحكاية من كون أطول لسان لدى الثدييات هو لسان الزرافة، ومن ثم يبدأ هذا اللسان بالتحدث عن نفسه في ما يشبه المونولوج، ولكن الزرافة لا صوت لها: لا ثغاء ولا خوار، لا مواء ولا نباح، لا زئير ولا صهيل.. “وماذا بعد” قلت لنفسي بصوت مسموع أمام السيدة ماري التي تمسك بجهاز الكرونمتر، والزملاء الحضور الذين ينتظرون متى سيفرغ جرابي.

ثم أردفت بالقول إن ابن الزرافة يسمّى في اللغة العربية “خيلف”، ويعود سبب تسميته بهذا الاسم إلى أنّ ولادته تتم في حالة وقوف الأم على قدميها، ويولد الصغير بالمشيمة التي تنفجر بمجرد سقوطه على الأرض، ويتم نموه وهو نازل ليلامس الأرض.

يا إلهي.. هل تعلمون أيها الحضور الكريم ماذا يعني أن تكون لك رقبة زرافة.. إنك لن تغرق بالتأكيد، حتى وإن كنت تجهل السباحة، أضف إلى ذلك معضلة أن يعيش الواحد دون صراخ ثم إن الزرافات عندما تتصارع تبحث عمّن يفك ضفيرة أعناقها في ما بعد.

وهكذا تلبّسني كائن يروي ويروي دون انقطاع مثل خَيْلف مقهور وقد استعار صوتا يروي به أوجاعه، إلى أن أوقفت السيدة ماري، المنافسة بسبب موعد الغداء.. “أرجوك.. دعيني يا سيدتي أحدثك عن كيفية أكل الزرافات التي لا أعرفها، وعن ولائم رقاب الزرافات المحشوة بالرز كما أتخيلها على موائد الإمبراطور الإثيوبي هيلاسيلاسي”، لكنها رفضت، أعلنت الوقت المستقطع وتركتني وحيدا مع الزرافات، أتألم أحيانا، وأضحك أحيانا أخرى. ربما، وبسبب ذلك قال ماركيز جملته الشهيرة “خُلقت لأروي”.

20