"قصة وفاء" دراما سينمائية توثق معاناة مغاربة مختطفين في مخيمات بوليساريو

رؤية سينمائية للمعاناة القادمة من مخيمات المتمردين تذكر بفيلم "دموع الرمال".
الاثنين 2024/10/21
اختطاف الأبناء واقع تعاني منه أسر مغربية

بالكثير من الجرأة والواقعية يطرح المخرج المغربي عبدالعالي طاهري فيلمه الجديد حول تجاوزات جبهة بوليساريو في حق المغرب والمغاربة، حيث يصور قصة اختطاف أحد المواطنين ومدى تأثيرها على حياته وعلى المجتمع المغربي؛ باعتبار أن مثل هذه الحالات ليست أحداثا فردية، وإنما هي في قلب النزاع طويل الأمد حول الصحراء المغربية.

الرباط - استقبلت قاعة العروض الكبرى بقصر الثقافة والفنون بطنجة يوم السبت، عرض الفيلم الروائي ” قصة وفاء” للمخرج عبدالعالي طاهري ضمن فعاليات المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة في الدورة الـ24 من المهرجان الوطني للفيلم.

تدور أحداث الفيلم حول قصة ماجد، وهو شخص ذو إعاقة يتم اختطافه من قبل بوليساريو خلال حفل زفاف في مدينة طانطان. يُحتجز ماجد في مخيمات تندوف لمدة عشرين عامًا، أين يواجه أصعب أنواع التعذيب والاستجوابات لكنه يظل متمسكًا بوطنيّته وحبه لوفاء، المرأة التي لم يفقد الأمل في العودة إليها. بفضل مساعدة بعض الصحافيين، يتمكن ماجد من كشف الفظائع التي تعرض لها في المخيمات، مما يؤدي إلى تحريره وينتصر وفاؤه لوطنه وحبه في النهاية.

الفيلم من إنتاج “نايس برود”، وسيناريو محمد ضهرا وإسماعيل طه، وتصوير علي بنجلون، وصوت سفيان حركي، وموسيقى عبدالفتاح نكادي، ومونتاج إلياس لخماس، وبطولة كل من محمد ضهرا ومحمد خيي وأمين ناجي وبنعيسى الجراري والبشير واكين وطارق الخالدي وأحمد شركي وبوجمعة الجميعي وهيام لمسيسي.

هذه الدورة من المهرجان تسعى إلى تعزيز الحضور السينمائي المغربي عبر إبراز مواهب متنوعة وتجارب
السيناريو يعكس التعقيدات السياسية التي تحيط بالصراع بين المغرب وبوليساريو من خلال قصة اختطاف ماجد واحتجازه عشرين عامًا 

يعكس السيناريو التعقيدات السياسية التي تحيط بالصراع الطويل بين المغرب وجبهة بوليساريو من خلال قصة اختطاف ماجد واحتجازه لمدة عشرين عامًا في مخيمات تندوف، وهي قضية لا تزال تشكل جرحًا عميقًا في الذاكرة الوطنية، إذ تكشف الأحداث عن ممارسات الجبهة الوهمية التي تتسم بالوحشية والتعدي على حقوق الإنسان، ويظهر كيف يمكن أن تصبح السياسة أداة للقمع والظلم ضد الأبرياء، حيث تبرز متتالية المشاهد مدى تأثير هذه الأفعال السياسية على العلاقات الدولية، وكيف يتم استخدام المخيمات كوسيلة ضغط سياسية ضد المغرب، وأن استخدام الصحافيين لكشف هذه الجرائم يعكس أهمية الإعلام في مقاومة هذه الأفعال السياسية غير الإنسانية.

ويعالج تتابع الأحداث موضوع التفكك الأسري والآثار المدمرة التي يتعرض لها المجتمع المغربي جراء هذه الاختطافات من خلال نموذج شخصية ماجد، إذ يتم تصوير واقع الآلاف من الأسر المغربية التي تعيش حالة من الألم والمعاناة بسبب غياب أحبائها، والذين يجدون أنفسهم فجأة ضحايا لظروف لا يمكنهم السيطرة عليها، وينعكس هذا الواقع من خلال إظهار الألم الذي تعانيه وفاء الحبيبة التي تنتظر ماجد طوال عشرين عامًا دون أن تفقد الأمل في عودته.

هذه القصة تكشف مدى تماسك المجتمع المغربي في مواجهة الظلم، بينما  يتمثل البعد الإنساني في الصمود الجماعي والوحدة المجتمعية في مواجهة التحديات الكبيرة التي يفرضها الصراع السياسي.

وتشكل المعاناة النفسية جزءًا جوهريًا من السيناريو، حيث يتعمق في تصوير الضغط النفسي الذي تعرض له ماجد خلال سنوات احتجازه في مخيمات تندوف، وكيف عانى من الاستجوابات المتكررة، التعذيب الجسدي والنفسي، ومحاولات مستمرة لكسر إرادته، بينما يتمسك ماجد بوطنيته وبحبه لوفاء، ما يعكس قوة الإنسان في مواجهة الضغوط النفسية الهائلة. وتتجلى المعاناة النفسية أيضا في لحظات الضعف التي يعيشها ماجد ومواجهته مشاعر العزلة والضياع، ولكنه يتمكن دائمًا من استعادة قوته بفضل إيمانه الراسخ بوطنه وحبه.

ويتميز الفيلم بأداء قوي للممثلين الرئيسيين محمد ضهرا وبنعيسى الجراري ومحمد خيي، حيث قدموا أدوارًا متكاملة عززت من قوة الفيلم وساهمت في نقله إلى مستوى درامي مقبول، فالممثل محمد ضهرا الذي جسد شخصية ماجد استطاع أن ينقل بتلقائية معاناة الشخصية محققًا توازنًا بين العاطفة والصمود، حيث ظهر في لحظات ضعفه وقوته بشكل واقعي، كما أن قدرته على تجسيد الألم النفسي والمعاناة الداخلية للشخصية كانت مقبولة مقارنة بالوضع الذي يعيشه.

وقدم بنعيسى الجراري دورًا مميزًا متجسدًا في شخصية ذات أبعاد معقدة، حيث ظهر بدور الرجل الذي يحيط بماجد ويحاول التأثير عليه، بينما أضاف أداءه القوي والإقناع في التفاعل مع باقي الشخصيات بعدا آخر للشخصيات، يجعل المشاهد يشعر بتوتر العلاقة بينهما وتفاعلها المستمر.

ويكتمل الانسجام بحضور محمد خيي وأدائه المخضرم الذي يضيف ثقلًا دراميًا إلى الأحداث، إذ استطاع بخبرته الطويلة في هذا النوع من الأفلام الوطنية أن يدمج بمهارة عالية بين الجوانب الإنسانية للشخصية والدور السياسي الذي يؤديه، ما خلق ديناميكية قوية ترفع مستوى التوتر الدرامي. كل هذا جعل تفاعلات الممثلين فيما بينهم تبدو سلسة وطبيعية وكأنهم عاشوا تجارب الشخصيات معًا.

تركيز على الآلام النفسية
تركيز على الآلام النفسية

وتميزت العناصر الفنية مثل المكياج المتقن والملابس والموسيقى التصويرية بقدرتها على تعزيز الجو العام للفيلم وإبراز الجوانب الدرامية للشخصيات والأحداث بشكل متكامل، فالفريق المكلف بالمكياج نجح في إبراز الإرهاق الجسدي والنفسي على وجه الممثلين، مع تفاصيل دقيقة مثل الكدمات والجروح التي جسدت مدى العنف والقسوة اللذين تعرضوا لهما، هذه التفاصيل أضافت بعدًا واقعيًا للأحداث وأعطت الشخصيات طابعًا أكثر إنسانية، ما يجعل المشاهد يتفاعل بشكل أقوى مع المعاناة التي يعيشها الأبطال.

وتعبر ملابس الشخصيات والديكور المحيط بها عن بيئة المخيمات القاسية وعن الحياة البسيطة التي يعيشها المختطفون، إذ تميزت الأزياء بواقعيتها وبساطتها، ما ساعد على إبراز الشخصيات في إطارها الحقيقي دون مبالغة، سواء المختطفين أو الجنود، وهذا الاختيار الدقيق والوقوف على التفاصيل يعمقان الفهم الدرامي للمشاهد.

وتبرز الموسيقى التصويرية للفنان عبدالفتاح نكادي عنصرًا رئيسيًا في رفع مستوى التوتر والدراما في إيقاع الفيلم، وأضافت بعدًا عاطفيًا قويًا، حيث كانت متناغمة مع المشاهد الدرامية والمشاعر المتباينة التي تعيشها الشخصيات، إذ استطاع نكادي أن يمزج بين الإيقاعات الحزينة والمؤثرة وبين لحظات التوتر والتصعيد الدرامي، ما جعل الموسيقى تتحدث أحيانًا بدلا من الحوار، مضيفة بذلك طاقة عاطفية قوية لكل مشهد.

نجح المخرج عبدالعالي طاهري في ترتيب المشاهد واللقطات بأسلوب فني ساهم في تعزيز قوة السرد الدرامي الحزين، إذ استطاع أن يخلق توازنًا بين تسلسل الأحداث وتطور الشخصيات، من خلال الاختيار الذكي للزوايا المختلفة ولإيقاع المشاهد ما أسهم في إبراز اللحظات المؤثرة، سواء تلك التي تعكس معاناة ماجد أو مشاهد الصراع والتوتر داخل المخيمات.

وأظهر مدير التصوير علي بنجلون كفاءة عالية في ضبط جودة تكوين اللقطات، إذ تمكن من استخدام الإضاءة والتكوين البصري بطريقة تضيف بُعدًا جماليًا للفيلم، مع الحفاظ على الواقعية القاسية التي تتطلبها القصة والتباين بين مشاهد الظلام التي تمثل القسوة والعزلة وبين مشاهد الضوء الخافت التي تعكس الأمل، وأعطت الفيلم جاذبية بصرية مقبولة.

يتشابه فيلم “قصة وفاء” لعبدالعالي الطاهري مع فيلم “دموع الرمال” للمخرج عزيز السالمي الذي صدر في عام 2018، حيث ينقل كلا الفيلمين معاناة المحتجزين المدنيين في تندوف ويعرضان بشكل مؤلم صور الألم والتعذيب التي عاشها هؤلاء الأفراد، مُسلطين الضوء على صفحة دموية من تاريخ قضية الصحراء المغربية من خلال قصص مجموعة من الأشخاص الذين عاشوا مختلف أنواع المعاناة خلف أسوار السجون، على الرغم من صدور “دموع الرمال” قبل “قصة وفاء”، إلا أن العملين يقدمان تجارب إنسانية عميقة ومؤثرة تستحق تسليط الضوء عليها.

14