قصائد تكشف الوجه المجهول لجورج أورويل شاعرا

الكاتب الشهير بدأ شاعرا منذ طفولته ولم يتوقف حتى نهاية حياته.
الخميس 2022/10/06
أورويل الصحفي والروائي أخفيا الشاعر

الكثير من القراء وحتى الأدباء يعرفون الكاتب البريطاني جورج أورويل بصفته روائيا أو صحافيا وكاتب مقالات، بينما كان أورويل منذ طفولته المبكرة يكتب الشعر ويحاول أن يخط له صوتا شعريا لم يجد الاهتمام الكافي ولا حتى الترحيب الكبير من النقاد.

حقق البريطاني جورج أورويل شهرته من كونه روائيا بارعا وصحافيا وكاتبا متمكنا في السياسية والنقد الأدبي واللغة والثقافة، حتى ليعتبر بالنسبة إلى المؤرخين الإنجليز واحدا من أفضل الكتاب الإنجليز في القرن العشرين، لكن شهرته كشاعر لم تحظ باهتمام كبير على الرغم من أنه بدأ حياته شاعرا.

وظلت قصائد أورويل متفرقة داخل أوراقه وأعماله الكاملة التي جمعها البروفيسور بيتر دافيسون بالتعاون مع إيان أنجوس وشيلا دافيسون، حتى قامت ديون فينابلز بجمعها في كتاب “جورج أورويل: الأعمال الشعرية الكاملة” الذي ترجمه إلى العربية عماد الأحمد وصدر أخيرا عن دار المدى، بمقدمتين أحدهما لديون فينابلز، والآخرى لبيتر دافيسون.

قصائد غير معروفة

أورويل كتب شعرا مبعثرا في جميع صفحات أعماله بكل شكل ممكن من أشكال الشعر بحرية تشبه حرية طباخ

تنطلق فينابلز في مقدمتها منبهة إلى أنه “ينبغي الانتباه بدقة عندما يبدأ العمل في جمع أشعار جورج أورويل في كتاب، سواء القصائد العادية أو غيرها، إلى السبب الذي يدفع أيّ شخص ليكلف نفسه عناء القيام بذلك، إذ رأى بعضهم أنه بوصفه شاعرا لم يكن يتمتع بأيّ خصائص مميزة، لكن هؤلاء النقاد مخطئون”.

وتضيف “كتب إريك بلير الذي أصبح لاحقا جورج أورويل، شعرا مبعثرا في جميع صفحات أعماله بكل شكل ممكن من أشكال الشعر، بحرية أشبه بحرية الطباخ القدير في إضافة السكر والتوابل إلى أطباقه، حتى أنه خصص مقالا من مقالاته لهذا الشكل الفني ‘الشعر والميكروفون.. جورج أورويل: المقالات‘ تعرفنا حتى اليوم على أجزاء قليلة من شعره، وعلى الرغم من أن الأبيات العاطفية التي مرت عرضا في أعماله قد تم اقتباسها مرارا وتكرارا فإن القليلين فقط قادرون على تحديد القصيدة التي تقتبس منها هذه الأسطر”.

وتتابع “بدأنا مشروع نشر هذا الكتاب بسبب الاستفسارات المتزايدة بسرعة حول العالم من الأعضاء ومن غير الأعضاء في ‘أورويل سوسيتي‘. كانت أغلب التساؤلات تتركز على تحديد إذا ما كان كل اقتباس يعود إلى أورويل أم لا، وتطلب تقديم اسم القصيدة وموقعها. كانت هذه الطلبات تعني قضاء ساعات عديدة في البحث في المجلدات العشرين التي يتكون منها كتاب ‘جورج أورويل: الأعمال الكاملة’، جمعها وحررها البروفيسور بيتر دافيسون بالتعاون مع إيان أنجوس وشيلا دافيسون، لاكتشاف فقط أين يمكن العثور على السطر الذي يسأل عنه السائل”.

وتلفت إلى أنه يمكن في حالات أخرى تحديد موقع السطر بنجاح، ومن ثم تحديد القصيدة وإرسالها إلى الشخص الذي طلب التوضيح. هذا النوع من التحقيق مرحّب به دوماً، ولكنه مكلف للغاية من حيث الوقت، لذلك ظهرت الحاجة تدريجياً إلى وجود كتاب مرجعي يضم كل شعر أورويل، وليس الأشعار الشهيرة فقط، لتمكين القراء من البحث في أعماله الشعرية بأكملها والعثور على الاقتباس بأنفسهم.

وتبين أن “الشعر يميل عادة إلى إحداث هذا التأثير في القارئ، لأنه يكتب انطلاقاً من العاطفة البحتة المجردة التي تضمن له تلك الفجوة العميقة والمتسعة بينه وبين الكلمات العادية المكتوبة. الحقيقة أن جورج أورويل ألّف هذه القصائد ولهذا ينبغي أن تكون متاحة. أعتقد أن كتاب ‘جورج أورويل: الأعمال الشعرية الكاملة‘ يوفر مصدراً ومرجعاً مفيداً للأكاديميين والمكتبات والطلاب وقراء الشعر عموماً”.

أعمال خالدة
أعمال خالدة

وتقول فينابلز “بذلت قصارى جهدي لسنوات عديدة في قراءة شعر أورويل أينما وجدته، ومن ثم مناقشته مع الآخرين. كانت الآراء عادة إما سلبية تماما أو تستذكر سطرا شعريا غامضا يتم اقتباسه كثيرا، مثل الأسطر الأخيرة من تلك القصيدة عن الجندي الإيطالي في الحرب الأهلية الإسبانية والتي يقول فيها: لا يمكن للهيب القنابل/أن يحرق الروح الكريستالية الصافية”.

وتتابع “وضع جورج وودكوك هذا السطر الأخير كعنوان لكتابه عندما كتب عن صديقه جورج أورويل ‘الروح الكريستالية‘، جوناثان كيب 1969. وأنا ممتنة للغاية لذكراه لتوجيه اهتمامي لاستخدام أورويل الانفعالي للغة الإنجليزية في شعره، وتمكيني من مشاركة مثل هذه الماسات المعبرة مع القراء الذين سيخصصون وقتهم لقراءة هذه المختارات، كتب أورويل: يوما ما أواسط الخريف،/تلك الأيام الساكنة عندما حلق السنونو/وشجيرات الدردار تذبل في الضباب/وكل واحد كائن منتش بذاته”.

ونقرأ هذا البيت البسيط: يا إلهي كيف تجمّعوا مع بعضهم البعض/مثل الكتاكيت التي تقترب من أمها الحاضنة”. أو حتى سطر واحد، ومن الآمن أن نفترض أن عددا قليلا للغاية من القراء قد قرأ من قبل: سبعة آلام مختلفة ومنفصلة عبثت بجسده مثل الأوركسترا.

وتواصل قائلة “فتنني هذا السطر منذ قرأته للمرأة الأولى، وعلق بذاكرتي. يكشف السطر الشعري عن المشاعر الداخلية لأورويل نفسه في نهاية حياته عندما كان يكافح ليستجمع طاقته للتنفس فقط، وكان يتعين عليه التعامل مع الآلام الأخرى التي تنذر بالخطر في جسده العليل. هذه هي القصائد التي يعرفها القليلون فقط، والتي يحق للجميع أن يعرفها، وعلى أساس ذلك يمكنهم إطلاق أحكامهم”.

محاولة الشعر

شهرة كبيرة لكونه روائيا بارعا وصحافيا وكاتبا متمكنا في السياسية والنقد الأدبي واللغة والثقافة
شهرة كبيرة لكونه روائيا بارعا وصحافيا وكاتبا متمكنا في السياسية والنقد الأدبي واللغة والثقافة

يكشف بيتر دافيسون أن عشق أورويل للشعر والحافز الكامن بداخله الذي يدفعه إلى كتابة الشعر بدأ في سن مبكرة ولم يتوقف حتى نهاية حياته، كما تظهر دفاتره الأخيرة. أعتقد أنه يمكننا القول إن عشق الشعر وفي الواقع ـ عشق الكلمات وأصواتها ـ قد أثر على نثره بالفعل.

يصف أورويل في مقاله “لماذا أكتب” محاولاته الأولى في الكتابة الإبداعية. كانت تلك الكتابات تتركز على الشعر. قال في هذه المقالة مقولته الشهيرة “كنت أعرف أنني أمتلك مهارة التعامل مع الكلمات والقدرة على مواجهة الحقائق المؤلمة”، وهذا بالضبط الهاجس الدائم الذي ميز كتاباته طيلة حياته.

من قصائد أورويل

"أغنية"
إليّ إليّ أيتها الأمواج الرقيقة،
اغسلي رمل البحر البارد.
تعالي وقبلي الشاطئ الذي أعيش عليه
أيتها الأمواج التي تحمل رائحة الوطن.
أيتها الأمواج السعيدة الجريئة التي لا يوقفها مطر أو خوف!
أقف هنا أراقبك تتكسرين،
بفضل الأقدار القاهرة التي سمرتني هنا.
أرسلي إليّ المساعدة من لجة أعماقك،
لأتوقف عن النحيب.
ربما تحملني حورية بحر أو حصان مجنح إلى الشاطئ بأمان.
ابتسمي مجددا، أيتها الأقدار القاهرة،
وابقي كما كنت يد أب حنون:
ليحملني البحر الهائج بسلام
إلى الوطن.

 ويضيف “كتبت قصيدتي الأولى، (ولنلاحظ أنه بدأ في كتابة الشعر أولا في سن الرابعة أو الخامسة)، وصححتها والدتي لي. لا يمكنني تذكر أيّ شيء منها سوى أنها كانت عن نمر مّا وكان النمر يمتلك أسنانا كالكرسي، عبارة جيدة بما فيه الكفاية، ولكنني أعتقد أن القصيدة كانت متأثرة للغاية بقصيدة بليك Tiger.Tiger”.

وأضاف أورويل “كتبت في الحادية عشرة من عمري القصيدة الأولى في هذه المختارات. عندما كانت أكبر قليلا في السن كتبت ما أطلقت عليه ‘قصائد سيئة وغير مكتملة دائما عن الطبيعة على الأسلوب الجورجي‘. ثم كتب لاحقا ‘قصائد شبه هزلية يمكن أن أتذكرها الآن بسرعة مذهلة‘”.

وعندما أصبح في السادسة عشرة من عمره قال “اكتشفت فجأة متعة الكلمات المجردة فقط، أي: الأصوات والتوافق بين الكلمات”.

ويؤكد دافيسون أن أورويل لم يغادر عشق الشعر على الإطلاق على الرغم من أن مهنته ستتركز فيما بعد على النثر، وكتابة المقالات النقدية وفن المقالات السجالية القصيرة. كان يحاول في أواخر حياته كتابة الشعر. كان في آخر مفكرة أدبية لديه مخطط لقصيدة اتسمت بالفكاهة السوداء ـ “جوزيف هينغر، فقيدنا ابن الرعية البار”.

ويلفت دافيسون إلى أن من بين الكتب التي قرأها أورويل في عام 1949 كان كتاب “سبعة أنواع للغموض” لويليام إمبسون وقد تصفح  كتاب “الشعر الحديث والتقليد” لكلينت بروكس، أليست كتبا ثقيلة وهامة بالنسبة إلى رجل مريض للغاية؟ كما قرأ كتاب “من بو إلى فاليري” للشاعر ت.س. إليوت الذي كتب فيه “يهتم كولريدج بالسيرة الذاتية الأدبية، ويهتم في المقام الأول بالطبع بشعر وردزورث، ولم يتابع دراساته الفلسفية في نفس الوقت الذي كان يكتب فيه شعره. لكنه يتوقع السؤال الذي فتن فاليري “ماذا أفعل عندما أكتب قصيدة؟”. هل نبالغ إذا اقترحنا أن أورويل طرح هذا السؤال على نفسه ليس حول محاولاته الشعرية فقط بل فيما يتعلق بجميع كتاباته؟

يذكر أن هناك الكثير من التركيز من قبل ديون فينابلز سواء على المقدمة أو الحواشي المصاحبة لكل قصيدة، لأنها ضرورية لفهم الظروف المحيطة بكل موضوع، حيث ربطت قصيدة ما مع رسالة ما هنا وهناك، مما وفر ذلك توضيحا لخلفية القصائد، وألقى الضوء على المزاج الذي كتبت فيه كل قصيدة، والذي يكمن وراء عمق العواطف المتناثرة في حياة أورويل القصيرة والغنية للغاية.

Thumbnail
13