قرار واشنطن بشأن خفض مساعدات مصر: حقوق الإنسان آخر الأسباب

بقدر ما كان قرار واشنطن بشأن تخفيض بضعة مبالغ مخصصة في إطار برنامج المساعدات الأميركية لمصر مفاجئا لمصر والعالم، فإنه يكشف حالة من الفوضى وعدم الانسجام داخل البيت الأميركي نفسه، خاصة وأن قرار الكونغرس جاء في ظل سياق جعلت من تبريراته المتعلقة بحقوق الإنسان في مصر أمرا غير مقنع مقارنة بما تردد عن قلق الإدارة الأميركية من علاقة القاهرة ببيونغ يانغ.
الأحد 2017/08/27
وضع غير مريح

القاهرة – كان قرار الكونغرس الأميركي بإرجاء أو إلغاء مساعدات بقيمة 295 مليون دولار إلى مصر مفاجئا في توقيته ومبرراته؛ أولا لأنه جاء في ظل تحسّن كبير في العلاقات الأميركية المصرية، فمنذ تولي الرئيس الأميركي دونالد ترامب منصبه، وثانيا دخول كوريا الشمالية على خط الأسباب التي طرحت في تفسير الخطوة التي أعلنت عنها الإدارة الأميركية في 22 أغسطس 2017.

ولم تنجح المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع نظيره الأميركي غداة الإعلان عن حجب المساعدات في تخفيف الجدل حول هذا القرار وأسبابه؛ فيما يذهب المحلل في معهد واشنطن للدراسات إريك تراغر إلى اعتبار أن هذه الخطوة تعكس تغييرات على مستوى المساعدات السياسات البيروقراطية والمحلية المعقدة التي تنطوي عليها السياسة الأميركية تجاه مصر، والتي عجزت إدارة ترامب عن معالجتها، الأمر الذي أسفر عن نتيجة مربكة تتعارض على الفور مع الأولويات الأخرى للإدارة الأميركية.

فمنذ تنصيب ترامب، كان يعتقد أن التوافق بين واشنطن والقاهرة كان كافيا لضمان علاقات ثنائية وطيدة تشمل المساعدات العسكرية الأميركية بعد سنوات من الخلاف وضغط إدارة باراك أوباما عبر المساومة بورقة المساعدات.

وتؤيّد هذا الرأي مصادر سياسية مصرية تحدث لـ”العرب”، مشيرة إلى أن كلا التطوّرين، حجب جزء من المساعدات والاتصال الهاتفي، يعكسان التضارب والارتباك اللذين يسودان صناعة القرار السياسي حاليا في العاصمة الأميركية، وقالوا إن هذا الارتباك يعود إلى تعدّد قنوات صناعة القرار والتنافس المحتدم في الوقت الراهن، ليس بين الإدارة وكل من الكونغرس والخارجية فحسب، بل وداخل البيت الأبيض نفسه.

الولايات المتحدة تضغط على مصر لتتوقف عن استضافة العمال الكوريين الشماليين، ووقف تقديم فوائد اقتصادية أو عسكرية لبيون يانغ. وقد أكد على ذلك ترامب خلال مكالمة هاتفية مع السيسي في 5 يوليو الماضي

تفهم القاهرة جيّدا هذا التضارب والانقسام، وعبّر عن هذا الفهم بيان خارجيتها الذي استنكرت فيه الإجراء الأميركي الجديد بتقليص المساعدات المقررة لمصر، ووصفت القرار بأنه “سوء تقدير” و”خلط للأوراق”، بشكل قد تكون له تداعياته السلبية على تحقيق العلاقات المشتركة بين مصر والولايات المتحدة.

ولفت خبراء إلى أن علاقة ترامب بمؤسسات صنع القرار في أميركا تختلف عن سلفه أوباما، فالأخير كانت له علاقات متوازنة مع الخارجية الأميركية والكونغرس، حيث كانت سياساتهم جميعا واضحة تجاه مصر، واستطاع أوباما بعد فترة من تقليص المساعدات الاقتصادية والعسكرية عنها عام 2014 أن يعيدها مرة أخرى قبل رحيله عن الحكم، بعكس ترامب الذي يأخذ مسارا مختلفا عمّا تسلكه خارجية بلاده، خاصة فيما يتعلق بأزمة الدول الأربع (مصر والسعودية والإمارات والبحرين) تجاه قطر.

سياسيون بالقاهرة قالوا إن المشكلة الحقيقة تكمن في أن هناك دوائر دبلوماسية وسياسية مصرية مازالت تصرّ على أن تتعامل مع الإدارة الأميركية على أنها “ترامب فقط”، وتعتقد أن تقوية العلاقات معه هي وحدها الضمانة الحقيقية لأن تكون القاهرة وواشنطن صديقتين وحليفتين ويمكنهما التلاقي في مختلف الاتجاهات.

وشددوا على أن ترامب كرئيس لا يمكنه تغيير المناخ العدائي داخل بعض اللجان الحيوية والمؤثرة في الكونغرس تجاه مصر، وبالتالي فإن اللعب على البيت الأبيض كورقة رابحة بمفرده ربما يجلب على القاهرة المزيد من الخسائر ويبقي علاقتها بدوائر صناعة القرار الأميركي مثلما كانت عليه خلال فترة الرئيس السابق باراك أوباما.

وأشار طارق فهمي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاهرة، إلى أنه أصبح حتميّا على الجانب المصري أن يفرّق بين ترامب وبين أميركا، لأن الولايات المتحدة ليست ترامب، والاعتماد عليه في كل شيء خاطئ، ويجب تغيير هذه الثقافة، لأن أميركا دولة مؤسسات وكيانات لها خصوصية شديدة، ومنها ما يعادي مصر بشكل واضح.

وبالنسبة إلى مكالمة ترامب السيسي أكد فهمي أن “الرئيس الأميركي لا يريد أن يخسر مصر كقوة إقليمية وهذه رسالة جيّدة يوحي من خلالها بأنه غير أوباما، لكنه في الوقت نفسه يبلغ الحكومة المصرية بأنه ليس بإمكانه فعل شيء أو تغيير هذا الموقف، وبالتالي فإن ما يحدث داخل الكونغرس والخارجية بحاجة إلى مجهود مصري مضاعف لتغيير هذه النظرة”.

علاقة ترامب بمؤسسات صنع القرار في أميركا تختلف عن سلفه أوباما، فالأخير كانت له علاقات متوازنة مع الخارجية الأميركية والكونغرس، حيث كانت سياساتهم جميعا واضحة تجاه مصر

واستبعد خبراء عسكريون في مصر أن يؤثر قرار تقليص المساعدات الاقتصادية والعسكرية على مناورات النجم الساطع بين الجيشين المصري والأميركي المقررة في سبتمبر المقبل، لا سيما وأن وزارة الدفاع الأميركية تؤيد التعاون العسكري مع القاهرة ضمن استراتيجية القضاء على الإرهاب وترفض سياسة تقليص المساعدات العسكرية التي يرعاها الكونغرس.

ويبيّن إريك تراغر، وهو مؤلف الكتاب “الخريف العربي: كيف ربح “الإخوان المسلمون” مصر وخسروها في 891 يوما”، أن الشروط التي وضعها الكونغرس بشأن المساعدات تبدو مبهمة بعض الشيء. فبدلا من تقديم خطوات ملموسة يجب على القاهرة اتخاذها لتلقّي المساعدة، تحدثت الإدارة الأميركية عن مخاوف لكنها عجزت عن تحديد ما إذا كان يجب تذليل بعضها أو جميعها. فعلى سبيل المثال، حثت القاهرة على إظهار تقدّم في قضايا المجتمع المدني، من خلال تحسين قانون المنظمات غير الحكومية الجديد أو حل محاكمة المنظمات غير الحكومية لعام 2013، التي استهدفت أربع منظمات غير حكومية تموّلها الولايات المتحدة.

وتريد الإدارة الأميركية أيضا أن تحتضن القاهرة بصورة أكثر حماسا الجهود الأميركية لإعادة تركيز التعاون العسكري على مكافحة الإرهاب.

لكن الأمر الأكثر حساسية، وفق تراغر، هو أن الولايات المتحدة تضغط على مصر لـ”التوقف عن استضافة العمال الكوريين الشماليين، ووقف تقديم فوائد اقتصادية أو عسكرية لكوريا الشمالية”. وقد أكد على ذلك ترامب خلال مكالمة هاتفية مع السيسي في 5 يوليو الماضي.

وكانت مصادر أميركية قد تحدثت عن زيادة التعاون العسكري بين القاهرة وبيونغ يانغ في الشهور الأخيرة، وكتبت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية “يبدو أن الضغوط الأميركية على مصر هي جزء من سياسة أوسع لأميركا ترى أن كوريا الشمالية ليست مشكلة فقط لواشنطن وسول وطوكيو، بل مشكلة عالمية”.

وأشار مراقبون إلى تصريحات أدلت بها هيذر نويرت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية الخميس قالت فيها “لدينا حوارات مع مصر، ومع دول أخرى عديدة، من أجل عزل جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية، ونعلم أن الأموال الناتجة عن تعامل هذه الدول مع النظام في بيونغ يانغ تذهب إلى أنشطة برامج الأسلحة النووية والباليستية وغيرها”.

ويضيف خبراء العلاقات المصرية الروسية على قائمة الأسباب التي تقف وراء القرار الأميركي، لا سيما وأن القاهرة أكدت قبل أسبوعين في أوج الأزمة الأميركية الروسية تمسّكها بتطوير علاقاتها الثنائية مع موسكو والحفاظ على قنوات التشاور مفتوحة بينهما.

واستبعد السفير محمد الشاذلي، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، أن تكون الملفات الحقوقية هي السبب الحقيقي وراء الإجراء الأميركي بشأن المساعدات، وقال إن الولايات المتحدة تتخذ المساعدات “ستارا” للضغط لأهداف أخرى، مثل لفت انتباه القاهرة إلى ضرورة تغيير سياساتها مع موسكو.

وشدد في تصريحات لـ“لعرب” على أن مصر مضطرة لأن تتعامل مع هذا الواقع بنظرة مختلفة، وذلك بالتقارب مع كل أطرافه لأن “هذا المشهد معقد”، لكنه أكد أن القاهرة في نفس الوقت لن تغيّر سياساتها الخارجية لإرضاء طرف على حساب آخر.

كاتب مصري

4