قتل النازيون والده.. إريش فْريد الشاعر اليهودي الذي عارض إسرائيل

مذكرات شاعر تعوّد انتهاك المحرمات السياسية بشجاعة.
الاثنين 2024/01/29
المتحرر من زنزانة الماضي الواقف دائما ضد الظلم

يقف الشعراء ضد الظلم والقتل منتصرين للحياة والإنسان أينما كان، لذا فإن الكثير منهم يجعلون من قصائدهم دعوة للحياة ووقوفا ضد كل انتهاك لها. هناك من الشعراء اليهود مثلا من كانت لهم الشجاعة في نقد إسرائيل وحتى الوقوف ضدها، انتصارا للروح الإنسانية بعيدا عن الأيديولوجيا والأديان وغيرها من التقسيمات، ومن أشهر هؤلاء الشاعر إريش فْريد.

كان الشاعر النمساوي إريش فْريد (1921-1988) رغم يهوديته من أشد منتقدي سياسات إسرائيل، وقد كتب قصيدة طويلة بعد حرب 1967 عنوانها "اسمعي يا إسرائيل". وفي أتون الحرب الوحشية في غزة استعاد الكاتب والمترجم سمير جريس أشعار فْريد، مؤكدا أنه اكتشف كم هي معاصرة وراهنة، وكم كان الشاعر بصيرا في أحكامه.

يقول المترجم “لقد استعدت كتابه العذب ‘وكنا نضحك أحيانا’ الذي يتضمن ذكرياته عن طفولته في فيينا قبل أن يدخلها النازيون، وقبل أن يضطر إلى الهجرة إلى لندن، وأيضا ديوان ‘حرية فتح الفم’، وهو الشاعر الذي فتح فمه مرارا، ومنذ صباه الباكر، لكي يعترض على الظلم الذي يمتلئ به عالمنا”.

حقق فْريد شهرة كبيرة عبر ديوانه الذي صدر عام 1964 بعنوان “قصائد تحذيرية”. ثم توالت بعد ذلك دواوينه التي دعمت شهرته كشاعر سياسي كبير، مثل ديوان "وفيتنام و.." عام 1966، وديوان “حرية فتح الفم” 1972. ونجح في أن يحول الشعر إلى حدث جماهيري بامتياز. كما قدم عددا من الدواوين العاطفية منها “قصائد حب” و”البحث عن قريب” و”الأمر الواقع”. وعلى الرغم من نجاحه المدوي، لكنه لم يعرف التكريم إلا في آخر سنوات حياته، بعد أن تجاهلته الجوائز الأدبية طويلا. فحصل قبل وفاته بأعوام قليلة على جائزة غيورغ بوشنر، أرفع الأوسمة الأدبية في المنطقة الألمانية.

فريد ولد ونشأ في فيينا، ابنا وحيدا لعائلة يهودية. كان يعاني إعاقة حركية بسيطة، جعلت والده يعتقد أنه لن يعمر طويلا. لكن الطفل عوض ذلك بمواهب أخرى. يقول فريد "في عمر الخامسة والنصف أو السادسة بدأت في كتابة قصائدي الأولى"، ثم شرع يشارك في تقديم مسرحيات للأطفال على عديد من مسارح فيينا. ومن الممكن القول إن طفولته انتهت مع وصول النازيين إلى الحكم عام 1933، إذ ألقي القبض على أبيه بعد انضمام النمسا إلى ألمانيا عام 1938.

شاعر سياسي

بعد وفاة والده جراء تعذيب البوليس السري (الجستابو)، فرّ الفتى من فيينا النازية إلى لندن، حيث عاش ظروفا صعبة
◙ بعد وفاة والده فرّ الفتى من فيينا النازية إلى لندن حيث عاش ظروفا صعبة

بعد وفاة والده جراء تعذيب البوليس السري (الجستابو)، فرّ الفتى من فيينا النازية إلى لندن، حيث عاش ظروفا صعبة. وكان يكسب رزقه من أعمال مشروعة وغير مشروعة، وبما يجمعه من نقود تمكن من شراء تأشيرات هجرة إلى بريطانيا لمعارفه من اليهود. هكذا نجت أمه ومعها نحو سبعين شخصا من المصير الذي لاقاه أبوه على أيدي النازيين. وفي مطلع الخمسينيات عمل إريش فريد معلقا في هيئة الإذاعة البريطانية في لندن (بي بي سي)، غير أنه استقال عام 1968 لاختلاف وجهات نظره السياسية مع توجهات المؤسسة الإعلامية. ثم تفرغ للشعر والترجمة الأدبية، واشتهر في البداية بترجماته المعاصرة لأشعار إليوت وديلان توماس وسيلفيا باث، ثم لمسرحيات شكسبير.

يقول المترجم سمير جريس في مقدمته لمذكرات فريد “وكنا نضحك أحيانا”، الصادرة أخيرا عن دار صفصافة، إن الشاعر تعوّد على انتهاك المحرمات السياسية بشجاعة، فنكأ جرح التاريخ النازي لألمانيا قبل أن يندمل. ثم هاجم السياسة الألمانية في الستينيات لأنها غضت الطرف عن الجرائم العسكرية التي مارستها الحليفة أميركا (آنذاك في فيتنام ونيكاراغوا)، ولأنها مارست إرهاب الدولة في السبعينيات في مواجهة إرهاب مجموعات اليسار المتطرف مثل مجموعة بادر - ماينهوف.

ويضيف "أثارت أشعاره السياسية النقدية الإعجاب والجدل في الوقت نفسه. وفي عام 1972، تقدم رئيس شرطة برلين الغربية ببلاغ ضده لأن الشاعر اتهم الشرطة في رسالة نشرتها مجلة ‘دير شبيجل’ بأنها نفذت ‘اغتيالا وقائيا’ بقتل الناشط اليساري الراديكالي جيورج فون راوخ. حوكم فريد أمام محكمة هامبورج الابتدائية، واستمعت المحكمة إلى الأديب هاينريش بُل الذي قدم شهادته كخبير أدبي. وصدر الحكم ببراءته في يناير 1974. وفي سنوات السبعينيات، تعرض فريد إلى نقد حاد لرفضه المشاركة في حملات الهجوم والتحريض على مجموعة 'بادر ماينهوف' الراديكالية التي اتهمت بالإرهاب. أما أشد موجات الهجوم حدة فقد واجهها عندما كسر 'التابو الإسرائيلي'، ونشر ديوانه الشهير 'اسمعي يا إسرائيل'، ما كلفَه عداوات مُرة مع بني قومه، وفتح عليه نار النقمة والتشهير".

◙ الشاعر تعوّد على انتهاك المحرمات السياسية بشجاعة، فنكأ جرح التاريخ النازي لألمانيا قبل أن يندمل

ويذكر جريس أن أحد دواوين إريش فريد يدعى “حرية فتح الفم”، وهو قد فتح فمه مرارا لكي يعترض على الظلم الذي يمتلئ به عالمنا. في أحد أيام صيف عام 1927، أي عندما كان في السادسة من عمره، كان فريد بصحبة أمه في جولة للتسوق في شوارع فيينا مسقط رأسه. رأى الطفل الجموع تتظاهر احتجاجا على حكم أصدرته المحكمة العليا بتبرئة مجموعة من الإرهابيين اليمينيين الذين قتلوا شخصين. ولتفرقة المتظاهرين أطلقت قوات الشرطة الرصاص عليهم، مما تسبب في مقتل وإصابة عدد كبير من المواطنين العزل. كان الطفل إريش شاهد عيان على ذلك اليوم (15 يوليو 1927) الذي أُطلق عليه فيما بعد “يوم الجمعة الدامي”.

في العام ذاته، ومع احتفالات عيد ميلاد المسيح، نظمت المدرسة احتفالا كبيرا كُلِفَ فيه إريش بإلقاء بعض القصائد. قبل أن يصعد الطفل على خشبة المسرح تناهى إلى سمعه أن رئيس شرطة فيينا يجلس بين الحاضرين، فانتهز الفرصة ووقف أمام الحاضرين قائلا بكل ثقة إنه يعتذر عن عدم تلاوة قصيدة عيد الميلاد، وذلك لوجود السيد شوبر رئيس الشرطة بين الجمهور. واسترسل فريد وحكى عما شاهده في شوارع فيينا يوم الجمعة الدامي. عندئذ انتفض رئيس الشرطة غاضبا وغادر القاعة، فعاد الطفل إلى المسرح وقال “الآن يمكنني أن أتلو قصيدتي”.

بعد انتقاله للحياة في لندن، وإثر انتهاء الحرب العالمية الثانية حاول فْرِيد الرد على السؤال الملح: كيف يمكن إبداع شعر بلغة النازيين القتلة؟ في محاولة للرد على السؤال اتجه فْرِيد في بداية مشواره الأدبي إلى الشعر السياسي المباشر الذي يهتم بالمضمون، ويتخلى عن التزويق والمحسنات البديعية والاستعارات البلاغية.

يؤكد جريس أن الشعر السياسي لدى فْرِيد منبر مقاومة يناضل عبره ضد الظلم بكافة أشكاله، وهو يعلم تماما أن قصائده “جافة” من “غبار الظلم الذي تكافحه”، لكنه لا يرى خيارا آخر كي يدلي بشهادته “عما يجثم فوق صدره”، وفي مواجهة “الذين يجثمون فوق الصدور”، كما يقول في ديوانه “اسمعي يا إسرائيل”.

إريش فْرِيد - وهو في هذا نسيج وحده في الأدب الناطق بالألمانية - استطاع أن يحرر نفسه من زنزانة الماضي والتاريخ النازي، وأن يتوجه ببصره سريعا إلى معضلات الحاضر والجرائم التي تحدث فيه. بدأ في أشعاره المبكرة يوجه بحذر النقد غير المباشر إلى بني ديانته، غير أنه سرعان ما تحول إلى النقد المباشر، اللاذع، حاد اللهجة بعد حرب 1967 التي حولت الحكومة الإسرائيلية تدريجيا من "حكومة قمع" إلى "حكومة مجرمين"، مثلما قال في إحدى قصائده. كتب إريش فْرِيد بعد حرب عام 1967 قصيدة طويلة بعنوان: "اسمعي يا إسرائيل"، حذر فيها الإسرائيليين من الأيديولوجية الصهيونية التي بدلت الأدوار، وحولت ضحايا النازية بالأمس إلى قتلة اليوم.

ويوضح "في عام 1974 أصدر كتابا يحمل العنوان ذاته، ضمنه إلى جانب 'اسمعي يا إسرائيل' قصائد أخرى تتابع جرائم دولة إسرائيل منذ إنشائها، بالإضافة إلى قصيدة مترجمة للشاعر العبري موردخاي آفي شاول. يضم الكتاب أيضا نصوصا لبعض الصهاينة، تركها فريد كما هي، مثل نصوص هرتزل، كل ما فعله – كي يبرز ما بها من عنصرية - أن قطّع سطورها لتبدو كأبيات قصائد، وذلك حتى يقف القارئ أمام الكلمات متأملا".

ضد إسرائيل

على الرغم من نجاحه المدوي، لكنه لم يعرف التكريم إلا في آخر سنوات حياته، بعد أن تجاهلته الجوائز طويلا
◙ على الرغم من نجاحه المدوي لكنه لم يعرف التكريم إلا في آخر سنوات حياته بعد أن تجاهلته الجوائز طويلا

يقول فْرِيد في مقدمة كتابه محللا أسباب نشأة التابو الإسرائيلي "منذ أن ارتكبت فاشية هتلر جرائمَ قتل اليهود، تولد في أوروبا الغربية شعور جماعي بالذنب له أسبابه المفهومة، وكثيرا ما أدى هذا الشعور إلى امتناع المرء عن توجيه أي نقد لليهود، وفي الوقت ذاته فقد ساوى الناس بلا أدنى تفكير بين اليهود والصهاينة. إلا أنني أشعر ليس فقط بالتضامن مع كل المشردين والمضطهدين الأبرياء، وإنما أيضا بشيء من الاشتراك في المسئولية تجاه ما يرتكبه يهود إسرائيل ضد الفلسطينيين وباقي العرب".

ويقول فريد في مطلع قصيدته "اسمعي يا إسرائيل"، المستمد عنوانها من صلاة يهودية تتكرر فيها عبارة "اسمع يا إسرائيل"، أي يا يعقوب: "ليس كغريب أو كعدو/ يشتعل كراهية لكم/ أتحدث كواحد منكم/ يعرف أيضا الطرق المؤدية إلى التيه/. في غرف الغاز والأفران/ حيث قضت عائلاتكم/ مات أقاربي أيضا/ بالغاز أو بالحرق./ منذ ذلك الحين أكافح/  ما أدى إلى ذلك/ وأكافح السلطات/ التي ساعدت هتلر على اعتلاء السلطة/ فهم لم يختفوا بعد من هذا العالم/ وماذا تفعلون أنتم؟/ إنكم تتلقون منهم الدعم”.

ويضيف “أنْ ينتقد اريش فريد بهذه الحدة – وهو اليهودي الذي قُتلت جدته وأبوه في أحد معسكرات التصفية النازية – دولة إسرائيل كان شيئا نادرا، وخاصة بالنظر إلى تلك الفترة المبكرة التي كانت فيها إسرائيل محل تعاطف ودعم دولي واسع باعتبارها الوطن الآمن لليهود الذين نجوا من ويلات المحرقة النازية. يقول المؤرخ اليهودي موشيه تسوكرمان إن ذلك الموقف كان يتطلب من الشاعر ‘شجاعة وجسارة ذهنية’. اليوم، وبعد مرور عقود عديدة، نعرف ما ارتكبته إسرائيل بحق الفلسطينيين. إن انتقاد إسرائيل في ألمانيا ما زال محرما على نطاق واسع، لكن ممارسات الاحتلال البربرية لم تعد سرا، ومن يريد المعرفة، بإمكانه أن يعرف. غير أن الوضع آنذاك، عندما كتب فريد قصيدته، لم يكن كذلك إلى حد كبير. أما ما لم يغفره له كثيرون حتى الآن فهو تشبيه الإسرائيليين الحاليين بالنازيين”.

 يقول فريد في مقطع من قصيدة "اسمعي يا إسرائيل": "راقبتم جلاديكم/ وتعلمتم منهم/ الحرب الخاطفة/ والجرائم الوحشية الفعالة/ (…. ) عندما كنا مُضَطهَدين/ كنتُ واحدا منكم/  كيف أظل منتميا لكم/ عندما تضطهدون الآخرين؟”.

أما في قصيدة “الخلفاء” فيقول: "لأن قتلة فاشيين/ طردوا يهودا/ ينبغي الآن على قتلة فاشيين/ أن يَغتالوا/ فلسطينيين/ أبرياء من مقتل/ يهود أوروبا/ بالطريقة نفسها التي/ اُغتيل بها اليهود آنذاك./ (… ) لأن يهودا ويساريين/ يسمون ما يحدث جنونا/ ولا يريدون أن يعاونوا القتلة/ يُطلِق الصهاينةُ/ على هؤلاء اليساريين "نازيين"/ وعلى اليهود المعادين للفاشية/ وصف "اليهود المعادين للسامية"/ و"خونة ذويهم".

◙ لحدة النقد الذي وجهه إلى الدولة اليهودية، تم تجاهل هذا الشاعر في إسرائيل تماما، رغم أنه يعتبر من أهم الشعراء السياسيين

ويكشف جريس أن نشر هذه القصائد، أثار ردَ فعل عنيفا داخل ألمانيا وخارجها، كما توالت على الشاعر أبشع الاتهامات، فبالإضافة إلى تهمة "معاداة السامية" المعتادة، أُتهم فريد بالتجديف وتحريف الكتاب المقدس وبأنه "مُدافع عن هتلر"، وبأنه "يهودي كاره لليهود" إلى آخر تلك القائمة من الاتهامات. لذا لم يكن سهلا على إريش فْرِيد – كما يذكر في مقدمة ديوانه “اسمعي يا إسرائيل" – نشر تلك القصائد. وحتى اليوم إذا ذهب شخص إلى مكتبة ألمانية لشراء هذا الديوان، فلن يجده. وإذا أراد قراءته، فعليه إما أن يشتري نسخة قديمة، أو يقتني الطبعة التي تضم الأعمال الكاملة للمؤلف في أربعة مجلدات، أو كتابا يضم "مختارات من شعره السياسي" وبه بعض قصائد "اسمعي يا إسرائيل".

ولحدة النقد الذي وجهه إلى الدولة اليهودية، تم تجاهل هذا الشاعر في إسرائيل تماما، رغم أنه يعتبر من أهم الشعراء السياسيين بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يترجم له عمل تقريبا إلى اللغة العبرية مثلما يقول المؤرخ الإسرائيلي موشيه تسوكرمان. تجاهل الإسرائيليون فريد تماما، أولا لنقده الحاد، وثانيا لأنه كان يكتب بالألمانية ويتحدّر من النمسا المتحدثة بالألمانية، وآنذاك كانت هذه اللغة تثير استهجان الإسرائيليين باعتبارها لغة النازيين. أنْ يأتي هذا النمساوي ويهاجم إسرائيل أخلاقيا، بل ويتضامن أيضا مع الفلسطينيين، فهذا ما لم يقبله أحد في إسرائيل.

ويشير إلى أن فريد لم يواجه هذا الهجوم من تيار اليمين أو من اللوبي الصهيوني فحسب، بل أيضا من بعض كتاب اليسار في ألمانيا الذين اعتبروا نظرته "قاصرة" و"أحادية". واتهموا شعره السياسي بالمباشرة وعلو النبرة وخلوه من جماليات الشعر، ومن هؤلاء مثلا الروائي اليساري جونتر جراس الذي هاجم فريد في أحد اجتماعات "جماعة 47" الأدبية. من ناحية أخرى، انحاز بعض الشعراء المهمون لصوت إريش فريد ورسالته السياسية، ومنهم هانز ماجنوس إنتسنسبرجر.

11