قايد صالح جنرال يجد نفسه في منعرج تاريخي معقد وشائك

“ترى كيف سأخرج من هذه المتاهة؟”. ربما كانت هذه الجملة هي ما يدور في خلد الفريق قايد صالح كلما اجتمع مع قياداته أو ألقى خطبه “الثلاثائية” أو زار النواحي العسكرية، أو شاهد مظاهرات الحراك كل جمعة، وهي تردد شعارات تطالب بدولة مدنية لا عسكرية أو حتى تهتف بضرورة رحيله.
شعارات ازداد حجمها وحدتها وغدت واضحة المعالم ومطبوخة في أمكنة ما قد يعرفها “القايد” بحكم توفر المعلومات الأمنية عنها، وقد تكون عفوية صادقة مكتوية بنار الشقاء والبؤس و”الحقرة” التي عششت في حياة الجزائري البسيط.
وجد الفريق صالح نفسه في مفصل تاريخي خطير؛ في مواجهة شارع غاضب ومحتقن ولولبي وتائه، في مواجهة جيش فوضوي وغامض يخرج كل جمعة وفي نفس كل فرد منه الكثير من القلق والحيرة، شيء من الجفاف العاطفي، شيء من غياب رمز أو رموز يحتمي بها أو يلوذ إليها كلما تفاقمت المحن وصعبت الحياة وتدنت القيم، شيء مفقود وظل ضائعا في الدروب والفيافي والشعاب.
خرج الشعب وضاقت به السبل وخنقه القنوط والوهن والفقر، وتلاشت أحلامه وآماله ومستقبله كطيف. سرقته وخطفته العصابة والحكام والمسيطرون ووضعوه في تابوت مغلق بالحديد والصلب وقذفوا به في أغوار المحيطات المظلمة. واعتقد هؤلاء أن الأمور استقرت بين أيديهم وعلى وسائدهم الحريرية إلى الأبد ولن تقدر أي قوة على زحزحة حجرة من الصروح التي بنوها بالنهب والاختلاس والنفوذ والفساد حتى أنها أمنت أن لا موت يأتي ولا طوفان ولا زلزال.
الجزائري مصاب بالوهم والحراك حرره من قبضته، كيف ظل الكل يصطف على أبواب الثكنات في أيام البرد والقر والحر، يحتمي بالعسكر بالجيش بالمخابرات، أيًّا كانت التسمية التي تشير إلى النياشين والرتب والملابس الخضراء والقبعات، وما يشير إلى ذلك الجنرال أو الضابط أو العقيد أو الكولونال أو حتى العريف البسيط في الأجهزة السرية.
لا أحد يمكنه أن يضبب الرؤية، أو يتبجح أو يقول أو يسبح ضد الأمواج العاتية التي تضرب الآن في قلب الدولة وفي قلب المجتمع والسرايا. جرائد كبرى وأحزاب علمانية وإسلامية ووطنية وليبرالية ومجهرية، ومنظمات وشخصيات وفواعل وفعاليات وتنظيمات، لا تتحرك أو تلتف أو تقرر إلا إذا أخذت اللمحة أو اللقطة أو الضمة أو الهمسة من الثكنات تأخذها بالتلفون أو بطرق ووسائل وسبل متنوعة.
الكل كان يحب العسكر ويبجل ويحيّي ويعظّم؛ “العسكر تعال وانقذ الجمهورية”. كانت تلك هي العلامات والعناوين الكبرى والقصائد العصماء التي تلقى من الغيب وفي الأوراق وفي التجمعات. المهم أن تظهر الصورة اللامعة والصحيحة حتى ولو كان ما يأتي من العسكر مليئا بالأخطاء والمطبات والكوارث، والشواهد على ذلك كثيرة.
العسكر في الجزائر لم يكن إطلاقا العدو والخصم؛ كان المخلص والمنقذ وصاحب الفضل والفصل، كما عكست المواقف الشعبية في سنوات التسعينات في قلب زمن الدم والإرهاب وحتى بعده.
فما الذي تغير وتخلخل الآن في عقل الجزائري حتى غدا اليوم العسكري يشكل الخطر الداهم على الجمهورية والمجتمع؟ لماذا يراه اليوم محتضرا وعجوزا وفاشلا ومضادا للحرية؟ لماذا كثرت على أبوابه السيوف والخناجر والبنادق؟
الفريق صالح المولود في العام 1940 بولاية باتنة، كان قد التحق وهو مناضل شاب بالحركة الوطنية، في سن السابعة عشرة من عمره. تدرج في سلم القيادة ليعين قائد كتيبة لجيش التحرير الوطني. غداة الاستقلال وبعد إجراء دورة تكوينية بالجزائر، طار إلى الاتحاد السوفياتي السابق في دورة تدريبية امتدت لثلاث سنوات، حيث تحصل على شهادة عليا بأكاديمية فيستريل. وشارك أواخر الستينات في الحملة العسكرية بمصر.
القايد والأسئلة الشائكة
وربما لا يستطيع الفريق صالح أن يجيب عن الأسئلة العديدة التي طرحناها، بحكم نشأته العسكرية التي تنتصر لعقيدة الانضباط والاستقامة والالتزام بالواجبات التي عليه بحكم الدستور والمهام. ربما هناك سقطات ومفاجآت ما في مسار التاريخ والوقائع التي وضعته في قلب معركة غير تقليدية مثلما تدرب عليها أو تعلمها في مدارس الجيش. ربما كان قدر الجزائر عبر تاريخها المنكسر ألا يتم تصحيح أمورها وإعوجاجها إلا عن طريق العسكر الذي كلما لاحت بوادر الاستقرار في الوطن إلا وأطلت من الزوايا المظلمة أشباح تفتك وخناجر تريد تمزيق أستاره أو الزج به في لظى النار والحديد.
هكذا تتوالى أقدار العسكر في الجزائر كأنها قطع من الليل مظلمة. نقرأ في كتب التاريخ ومدوناته أن العقيد بومدين وزير الدفاع انقلب على الرئيس بن بلة لتصحيح خطأ ما وقع فيه. ثم تتكرر الحكاية مع العقيد زبيري الفاشلة في الإطاحة ببومدين لتصحيح أمر ما أيضا. ثم تعاد الكرة بوفاة هذا الأخير حين أمسك العسكر بالأمر وفرض رئيسا عسكريا أيضا. ولمّا لم يرق هذا الأخير للعسكر انقلب عليه العسكر أيضا وجيء بعسكري أيضا.
المواقف التي صدرت عن الفريق صالح لم تعجب أحداً في الحراك الشعبي، وهكذا غدا بين ليلة وضحاها أكبر عقبة أمام مسيرة التحرر والاستقلال
هكذا الأمور تعاد وتتكرر وتستنسخ في منطق وسيرورة النظام والحكم في الجزائر؛ عسكري يأتي بعسكري، يحدث الصدام وتتأزم الأمور وتجد طريق الحل بفضل العسكري ويبقى هو هو صاحب الشأن والقائد الأعلى والناهي والآمر والجد الأكبر الذي يرعى عائلة الوطن الكبيرة الممتدة والمتشعبة، يحافظ عليها بالأسنان والسلاح والردع ويدعوها دوما إلى موائد الحوار والسبل اليسيرة لمواجهة الأخطار الداهمة من زمن إلى زمن.
وكان المدني سواء السياسي المثقف الإعلامي النقابي يساريا أو مسلما، ملحداً اشتراكياً أو نخبويا متعلما، وصولياً أو دون انتماء، يركض في مسارح العسكري وينطق باسمه المقدس والمبجل ويرفعه في أعلى عليين بل حتى يتعبد في محرابه. ألم يكن الجنرال توفيق رئيس المخابرات الأسبق المسجون حاليا “رب الدزاير” تأتيه القوافل حاجة متبركة ومتعمدة ببخوره؟
أما الفريق صالح فقد تقلد عدداً من الوظائف العسكرية، ثم تمت ترقيته إلى رتبة لواء، وعيّن قائدا للقوات البرية، ثم رئيسا لأركان الجيش الوطني الشعبي، وحصل على رتبة فريق سنة 2006، ومنذ العام 2013 يشغل منصب نائب وزير الدفاع الوطني، رئيسا لأركان الجيش. وقد حاز وسام جيش التحرير الوطني ووسام الجيش الوطني الشعبي من الشارة الثالثة ووسام المشاركة في حروب الشرق الأوسط، ووسام الشجاعة والاستحقاق العسكري.
لقد جاء الفريق خالصا لوجه المؤسسة العسكرية دون غيرها. ثم أودعته الأقدار في قلب عاصفة تتجاوز البدلة العسكرية والأوسمة والنياشين.
التاريخ مرة أخرى يدفع بالعسكر إلى الواجهة حيث خرج الفريق صالح من مقر وزارة الدفاع إلى ساحات الواقع الجديد الثائر والمنتفض، كان طوال السنوات التي قضاها على رأس الأركان يعمل رفقة جنرالات وألوية وعمداء وخبراء جزائريين من أبناء المدرسة الجزائرية على تحديث الجيش وعصرنته، فسافر وجال واختار أحدث الأسلحة والتكنولوجيات والخبرات لتطوير مهارات الجيش القتالية والدفاعية والمعلوماتية والاستخباراتية.
يضرب في أي لحظة
صحيح أنه ينتمي إلى مدرسة تقليدية في النظر وتقدير الأمور، لا يلعب بمهارة وحنكة ومكر وحيلة. وصفه البعض بلاعب الدومينو البسيط؛ يحسن وضع الأحجار حسب الرقم ولا يحسب ولا يخمن كثيرا، إلا أن المهم عنده أن يلقي بحجرة الدومينو الرابحة التي في يديه وهو في هذا لا يشبه من يناور و”يخلع” ولا يملك في يديه الحجر الرابح.
صارم وخشن وصلب و”واعر”. لم يتردد لحظة في الزج بأقرب مقربيه من الجنرالات في السجن بعدما ثبت تورطهم في قضايا فساد. وعندما نقول أقرب مقربيه يعني من حملوا معه السلاح في الجبال والفيافي أثناء محن الاستعمار، ولا نتحدث عن باقي العصابة القابعة اليوم في غياهب السجن.
خرج الفريق صالح من صرح الأركان بعدما اشتعل الشارع ونبض بروح أخرى رافضة لما كان يحاك في الظلام ضد إرادته ومستقبله بعد أن مل الوعود والانتظارات، ورأى مقدراته تفر بين يديه للمرة الألف، فرت بها قوى وحكام خانوا العهد والوفاء، وقال هذه المرة “لا”.
واليوم يبدو الفريق صالح في مهمة تحمل عنوانا عريضا وكبيرا ومتشعبا تصدر الشارع؛ الإنصات إلى ما يقوله الشعب بقوة وبحزم وإرادة وبلا عودة أو خوف مما يأتي، حتى لو انهدم البنيان وسقط السقف وانهارت الأرض.
سوف لن تكون المهمة تقليدية، فالمؤسسة العسكرية كانت دوما ثابتة وصامدة وملاذا مانعا للعواصف المدمرة، يقول “إن مواقف القيادة العليا للجيش الوطني الشعبي، هي مواقف ثابتة وصادقة حيال الوطن والشعب منذ بداية الأزمة ومرورا بكافة مراحلها وإلى غاية اليوم، هذا الثبات في الرأي والموقف، يأتي من ثبات المبدأ الوطني الذي تتبناه المؤسسة العسكرية والرامي أساسا إلى مراعاة مطالب الشعب، وتطلعاته المشروعة أثناء التعامل مع مجريات إيجاد الحلول الدستورية لهذه الأزمة السياسية”.
العسكر والحراك
وبالزخم المتصاعد الذي عرفه الحراك ووصوله في العديد من المرات إلى نقطة كاد يسيل فيها الدم أمر الفريق صالح بحماية المتظاهرين من الشغب والاحتكاك، وظلت عيون أخرى تسهر ليل نهار وفي سرية تامة على الأمر وبانضباط، وهي جهود متفانية قدمتها المؤسسة العسكرية يصفها الفريق صالح بنفسه قائلا إنها “جهود مراعية أساسا للمصلحة العليا للوطن، هذه المصلحة العليا التي تستوجب بالضرورة تجميع جهود كافة الخيرين من أبناء الجزائر، واستنهاض هممهم في سبيل التحضير الفاعل والجاد لإجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة في أقرب الآجال، من خلال تبني أسلوب الحوار الوطني الجاد والبناء الذي أشارت إليه كافة المبادرات الخيرة بمضامينها الواقعية والمعقولة”.
طبعا لم تعجب هذه المواقف التي صدّرها الفريق صالح أي أحد، وغدا بين ليلة وضحاها أكبر عقبة أمام مسيرة التحرر والحرية والاستقلال التي رآها الكثيرون غريبة وعجيبة وصادمة. فممن سيتحرر الشعب؟ عمّن سيـستقـل؟
الإجابة عن ذلك السؤال هي التي تفسر هذا اللف والدوران الذي يطبع الحراك. فلمصلحة من يطول هذا الأمر؟ وإذا حان الأوان لكي تحسم الأمور في قادم الأيام وأن ما يحدث الآن ليس صراعا بين العسكر ممثلا بالفريق صالح وبين الحراك بل هو محاولات غامضة ظهرت علنا في العديد من أيام الجمعة، لتكسير مشروع الخروج من التأزم بأقل الأضرار الممكنة، وإفشال أهم تلاحم وتكاتف أصيل قد تعرفه الجزائر بين العسكر والشعب، بعيدا عن المزايا والمصالح الضيقة والأجندات المرتبة والبطانة التي تريد الدخول إلى القصور رؤساء دون تفويض شرعي وقانوني ودستوري.
قد لا ينتهي الفريق قايد صالح كبطل، وقد لا يهدأ جنرالات الحراك، إذا تذكروا أن لهم وطنا واحدا سقي بدماء شهداء قدموا أروع الملاحم عبر التاريخ وها هي أصواتهم تنادي اليوم بالمحافظة عليها مهما كانت الصعاب وجراحات الذاكرة.