في وداع من آمن بي

في عالم الصحافة تمر علينا وجوه كثيرة وأسماء كثيرة أيضا، لكنّ قليلا منها يترك بصمة حقيقية، تتجاوز حدود المهنة، لتصبح أثرا في الذاكرة، وعلامة فارقة في مسيرتنا. رئيس تحرير صحيفة “العرب” الراحل الدكتور هيثم الزبيدي كان من بين تلك القلة النادرة.
لم يكن “الدكتور” كما يحلو لنا في الصحيفة مناداته، مجرد مسؤول يتابع أداء الفريق أو يوجه السياسات التحريرية، بل كان قائدا يؤمن بأن وراء كل اسم شاب مشروع نجاح ينتظر من يكتشفه. كنت من بين أولئك الذين منحهم الفرصة وآمن بهم في الوقت الذي لم يكن من السهل أن يراهن علينا أحد.
كنت محررة في سنواتي المهنية الأولى، التقيته بعض المرات في اجتماعات عمل خاطفة، لم تتجاوز حدود التقييمات السريعة للعمل، إلى أن أتت اللحظة الفارقة خلال إحدى مواسم منتدى أصيلة في المغرب، حيث دار بيننا حديث مختلف، بعيدا عن المكاتب وضغط المواعيد. هناك استمع إليّ بإنصات لم أكن معتادة عليه، تناقشنا في ملفات كثيرة كان أغلبها سياسيا عن دول شمال أفريقيا، باعتباري كنت محررة الصفحة المغاربية.
لم تمض فترة طويلة بعد ذلك اللقاء حتى بدأت إشارات ثقته تظهر.سئلت عن رأيي في قرارات مهمة وأنيطت بي مهام لم تكن ضمن نطاق مسؤوليتي، ثم دون مقدمات كثيرة، وجدت نفسي محررا أول ثم بعد فترة قصيرة مديرة تحرير. لم يكن قرارا إداريا فحسب، بل كان رسالة شخصية تحمل إيمانا ودعما نادرين.
ذلك التحول لم يكن ليحدث لولا بصيرة الدكتور وإيمانه العميق بقدرات الشباب ورهانه الدائم على الكفاءات الواعدة. كان يؤمن أن الطاقة لا ترتبط بالعمر وأن التفكير المنطقي يستحق أن يقابل بالثقة.
كان “الدكتور” يؤمن بقوة المنطق ورصانة التفكير في كل خطوة، وكان يقدر في من حوله القدرة على التحليل الموضوعي والتفكير الهادئ وهذا ليس غريبا على ذكائه اللافت وقدرته الاستثنائية على احتواء التحديات وصياغة الحلول بهدوء واتزان.
لم يكن يحب الأضواء لكنه يضيء طرق من حوله، كريم الطبع، نبيل في تعامله شهم في مواقفه، وصاحب حس إنساني عال قل ما نجده في مواقع المسؤولية.
إلى جانب ذلك، كان الدكتور هيثم من القلائل الذين آمنوا إيمانا حقيقيا بالمساواة بين الرجال والنساء في بيئة العمل، لا بوصفها شعارا بل ممارسة يومية ومبدأ لا يحيد عنه. لم يكن يقبل أن تقيّم الكفاءات على أساس النوع أو العمر، بل كان يصر على أن تمنح الفرص على أساس الجدارة وحدها، دون تحيز.
وقد تجلى هذا الإيمان في مواقف واضحة، كان أبرزها إصراره على أن تكون العدالة حاضرة حتى في التفاصيل التي قد يغفل عنها الكثيرون، مثل التوازن في الرواتب وتوزيع المسؤوليات. تحت إدارته، لم تكن المساواة مجرد بند في السياسات الداخلية، بل واقعا يوميا يشعر به كل من عمل معه، وخاصة النساء اللواتي وجدن فيه سندا ومدافعا صامتا عن حقهن في التقدير والفرصة العادلة.
لم يكن “الدكتور” يرى في الصحافة مهنة فقط، بل كان يعتبرها رسالة عقل ووعي. رسالة تقوم على التفكير بدل التلقين وعلى إعمال العقل والتعلم والمعرفة بدل الاستسلام للجهل. كان يرفض أيّ انزلاق للخطاب السطحي أو التحريضي وكان موقفه واضحا من الفكر الديني المتشدد الذي اعتبره عدوا للحرية وطالما جعل من صحيفة “العرب” منصة لمحاربته وفضح مآرب مستخدميه.
تدخلات الدكتور هيثم الرشيقة حفرت في ذاكرتنا ملامح واضحة لما يحب ويكره سواء في طريقة اختيار زوايا المعالجة، إلى حساسيته تجاه الصور المستخدمة وتعاليقه الرشيقة والساخرة أحيانا كثيرة عليها. كان يكره الصورة الجامدة صور الاجتماعات والصور الرسمية الكلاسيكية ويحثنا على اختيار صور لافتة تحمل حركة.
كانت ملاحظاته دروسا غير معلنة في الذوق الصحفي والذكاء التحريري، يعلمك كيف تقول الكثير بالقليل أو بمجرد صورة وكيف يلفت النظر إلى ما هو أعمق بكثير من الظاهر.
بعيدا عن موقعه الرسمي كرئيس تحرير مسؤول ورئيس مجلس إدارة مؤسسة “العرب”، كان الدكتور هيثم إنسانا حاضرا في التفاصيل الصغيرة. يتذكر أعياد الميلاد، يسأل عن الأهل، يشارك الفريق لحظاتهم الصعبة حتى دون أن يطلب منه، إذ لم يكن يرى في الزملاء مجرد أسماء على الورق، بل أفراد يستحقون الاحترام والرعاية.