"في مديح الموت".. مسرحية تحاكي فلسفيا الواقع التونسي المأزوم

كعادته يرتكز المخرج التونسي علي اليحياوي في اشتغاله المسرحي على الحفر في الذاكرة الإنسانية وعلى دقة منابع الاستلهام وكينونتها وطرافتها، فيتوغّل في عوالمها المرحة حينا والموجعة دائما، ليخوض أخيرا تجربته المسرحية الثالثة مع مركز الفنون الدرامية والركحية بتطاوين، عبر مسرحية “في مديح الموت” عن نص مقتبس من رواية “انقطاعات الموت” للروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو الحائز على جائزة نوبل للآداب في العام 1998.
تونس - استلهم المخرج التونسي علي اليحياوي حالة الحجر الصحي والشوارع المقفرة وأنباء ضحايا كوفيد – 19، ورائحة الموت التي تطل من الأبواب والنوافذ ومشاهد الجنائز الصامتة بلا مُشيّعين كإطار لحكاية مسرحيته الجديدة “في مديح الموت” التي قدّمها المركز الوطني للفنون الدرامية والركحية بتطاوين (جنوب تونس) منذ أيام في عرضها قبل الأول، فيما سيكون العرض الأول في الثالث من سبتمبر القادم في مدينة الثقافة بالعاصمة تونس.
والمسرحية المقتبسة عن رواية “انقطاعات الموت” للروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو ترصد إحساس الإنسان بالموت وتمثّله له، وكتب نص المسرحية رضا بوقديدة وأخرجها علي اليحياوي، وهو العمل الثالث في رصيد المركز بعد “سوق سوداء” و”راعي الصحراء”.
وعن فكرة المسرحية وطروحاتها، يقول اليحياوي “الآن وهنا يتجلى الموت بشكل مباشر وصادم وعنيف، هكذا فجأة يجد الإنسان نفسه عاجزا عن مواجهة الوباء، حجر شامل وشوارع مقفرة وكأن العالم أُفرغ من ساكنيه، ولكن الموت لم يغادرنا لحظة، كان وسيظل أحد مكونات الوجود”.

إحساس الإنسان بالموت
ويتساءل “لم الفزع إذا؟ هل الموت بهذه البشاعة الموصوفة أم هو عنصر من عناصر تجدّد الحياة؟ ماذا لو انقطع الموت عن القيام بدوره؟ ماذا لو غادرنا الموت فجأة وتركنا لحال سبيلنا؟ كيف ستكون حياتنا؟ من خلال أطروحة جوزيه ساراماغو نُعيد طرح المسألة في مستواها الفلسفي والديني والسياسي والاجتماعي”.
وتتعمّق أزمة الموت الشائع في ظل انتشار فايروس كورونا الذي يقصف كل يوم العشرات من التونسيين مع أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية تعيشها البلاد بعد عشر سنوات من ثورة رفعت شعارات الكرامة والحرية، قبل أن تتحوّل إلى كابوس بسبب الفقر والتهميش والانسداد السياسي.
الموت يحظر في المسرحية ليس بمعناه المادي فقط بل بمعناه الرمزي، أيضا فكل شيء في هذه “الجمهورية البرلمانية” التي استلهمها اليحياوي من نص ساراماغو يموت أو منذور للموت.
هنا ينقطع الموت عن العصف بالأرواح لمدة سبعة أشهر كانت كفيلة لخلق أزمة اقتصادية وسياسية وفلسفية. سبعة أشهر لم يمت فيها أحد، ممّا يشي بإمكان تحقّق حلم البشرية في الخلود، ولكن هذه “الجمهورية البرلمانية” المتخيلة تُدرك مع مرور الزمن أن لا مستقبل للوجود دون فناء، وأن لا قيمة للحياة دون موت، فقط الفعل يظل ثابتا وراسخا. الموت حقيقة أزلية ضرورية، ولكنها ليست نهاية للحياة، بل بداية لحياة أخرى أكثر طهرا.
وعن تعامله مع النص الروائي ساراماغو مسرحيا يؤكّد اليحياوي أنه اختار توظيف الجماليات من خلال اعتماده ثنائية الواقعي والسحري، موضّحا “الموت حالة ميتافيزيقية، ولكنها تنزل للواقع لتعبث به في شكل تداعيات ملموسة فيتداخل الواقعي بالعبثي والخارقي، وهذا يتطلب مناخات سحرية وعجائبية متحوّلة، وفّرت لي وللممثلين أيضا مشهدية درامية أكثر عمقا وإمعانا، خاصة في الظرف الحالي الذي تمرّ به البشرية جمعاء علی خلفية انتشار الوباء”.
وجمع المخرج في عمله الجديد مجموعة من الممثلين التونسيين من أجيال ومسارات مختلفة من بينهم المسرحي المخضرم كمال العلاوي إلى جانب مجموعة من الممثلين الشباب هم: أمينة الدشراوي وعواطف العبيدي ومحمد الطاهر خيرات وحمزة بن عون وأسامة حنايني وعلي قياد ورياض رحومي وعبدالسلام حميدي وعمر الجمل وأنور بن عمارة وهيفاء كامل.
و”انقطاعات الموت” رواية للأديب البرتغالي جوزيه ساراماغو، صدرت في العام 2005، وهي تعتبر من الروايات الأخيرة في مسار ساراماغو الأدبي، حيث كتبها في سياق أحسّ فيه بدنو أجله لتكون بمثابة مدح أدبي للموت وبضرورة تقبله واعتباره حدثا طبيعيا في حياة الإنسان.

علي اليحياوي: ماذا لو انقطع الموت عن القيام بدوره، فكيف ستكون حياتنا؟
وتدور الأحداث التي يسردها راو مجهول في دولة غير محددة، يختفي منها الموت فجأة مع بداية رأس سنة ميلادية جديدة. وأمام هذه الظاهرة الغريبة وغير المفسرّة علميا، تتحوّل الفرحة الأولية تدريجيا إلى قلق بفعل الاضطراب الذي يخلقه اختفاء الموت للعديد من المهن والقطاعات الاقتصادية كشركات التأمين على الحياة وشركات نقل الموتى ودور العجزة والمستشفيات، إضافة إلى الحكومة والكنيسة اللتين تصبحان مهدّدتين بفقدان سلطتيهما بسبب اختفاء الموت من المجتمع.ورغم الجانب الجاد والحزين أحيانا لموضوع الرواية، إلاّ أن ساراماغو أغنى النص بسخريته المعهودة والحادة وبالعديد من التساؤلات المرحة المتعلقة ببعض المواقف التي يخلقها غياب الموت من المجتمع.
وتنمو لاحقا فكرة بين فئات المجتمع الأكثر معاناة من غياب الموت كالمصابين بالأمراض المزمنة بضرورة إيجاد مهرب إلى الدول المجاورة لتخليص أنفسهم وأقاربهم من الخلود في المعاناة.
وهذا الطلب المتزايد على الموت يشجّع ظهور منظمة سرية باسم “مافيا”، كما ورد في النص الأصلي، لتصبح تقريبا دولة داخل الدولة تشتغل أساسا في تسهيل الموت للراغبين في ذلك، ما يعني أن للموت تجاره أيضا وسوقه المربحة.
ويستعمل ساراماغو تقنيات سردية جدّ متباينة في هذه الرواية، حيث ينتقل بسلاسة وبراعة بين السرد الصحافي المغرق في التفاصيل للأحداث وبين الإشباع الفانتازي، خصوصا في تجسيد الموت في آخر الرواية، مرورا بالتأملات الفلسفية الوجودية والتعليقات الساخرة الحادة حول بعض المواقف.