في قيامة "القاشوش" السوري

مقالي اليوم ليس سياسيا بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنه – وهذا مؤكد – يصبّ في متن الحالة السياسية السورية، إن لم أقل يؤثّر فيها، يقرأ إرهاصاتها ويرسم مشهدها المتخبّط مع ارتجاف إبرة بوصلة الولاء السوري وهل مازال مقتصرا على الولاء الخالص للدم الحر، أم أنه انحرف مسايرا اتجاهات تيار المال السياسي المنفلت بلا ضوابط، أو خاضعا للمصالح الأجنبية على تناقض مواقفها ودرجة هدمها أو دعمها للمشهد والإنسان السوريين؟
المراقب للحوارات السورية ضمن دائرة المعارضين للنظام السوري، وهم الفئة المعوّل عليها للتأسيس لمجتمع جديد بأفكار حيوية وروح من التسامح والانفتاح وقبول الآخر، وأقصد الحوارات التي تتم عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفِي مقدمتها واتساب الأكثر استخداما للتخاطب وتبادل المعلومات بين مجموعات المعارضة على اختلاف توجهاتها السياسية وولاءاتها، هذا المراقب، وأنا واحدة من المراقبين، يستطيع أن يسجّل حربا افتراضية بينية موازية للحروب الفعلية الدائرة على الأرض تدور رحاها على فضاء الشبكة، ودون هوادة، إلى أن يتيسّر لأحد الوسطاء إصلاح ذات البين أو إعلان هدن محدودة بين الأطراف المنخرطة في حرب السجالات غير المعلنة.
ما يدعو للأسف أن الحال السورية الميدانية والسياسية والإنسانية، الأشبه بجسد خالد بن الوليد “ما في موضع منه إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح”، هي في أمسّ الحاجة إلى أقصى حالات التعاضد نظرا لخطورة الوضع الإقليمي ودقّته، وللحالة المتردّية التي بلغناها إثر حروب دائرة منذ تسع سنوات ونيف. وحاجتنا في هذه المرحلة إلى أعلى درجات الغيرية والترفّع عن الذات، وتناول المصلحة العامة بعيدا عن المكاسب الشخصية الضيقة، حتى يمر الجسد المنهك بهذه المرحلة السريرية الحرجة ويضمد بعضا من جراحه ويعود للتعافي رويدا رويدا.
يختلف السوريون على التفاصيل حينا، وعلى الولاءات أحيانا، وعلى “الزعامة” – وهي افتراضية بدورها كسجالاتهم – معظم الأحيان. حدث هذا في مرحلة متأخرة من عمر الثورة السورية نتيجة تداخل القوى الفاعلة على الساحة السورية، عسكريا وسياسيا وإغاثيا، واختلاف مرجعياتها على المستويين المالي والسياسي.
فالثورة السورية التي انطلقت في مثل هذه الأيام من شهر مارس للعام 2011، سلمية سوريّة خالصة، تُرفع في مظاهراتها المدنية الشعارات والورود الشامية لا البنادق وصكوك الغرباء، ما لبث النظام الحاذق في ترتيب المؤامرات والمتمرّس بطرق القمع في حالتي السلم والحرب، أن دسّ بين صفوفها عناصر تحولت مع الوقت إلى مجموعات تنشر العنف والإرهاب وتقتات من ردود الأفعال على عملياتها الترهيبية التي كانت سببا أساسا في دخول جيوش منظمة لدول جارة وأخرى وصلت من وراء البحار، طامعة وذات مصالح في هذه الرقعة الجغرافية المتواضعة في المساحة لكن الهائلة في موقعها الجيوسياسي وتأثيره على الدول الإقليمية بعامة، والشرق أوسطية بخاصة.
وفي حال العجز السياسي الذي تعاني منه المعارضة السورية، والاستقطاب الذي يعوق أيّ مسعى تفاوضي أو دستوري كانت قد وصلت إلى مشارفه في خطوات بسيطة لم تكن كافية لتلجه من بابه العريض، نرى الحرب الدائرة على الأرض، والتي هي خارج سيطرة السوريين تماما، موالاة ومعارضة في آن، تنتقل إلى حروب افتراضية على مجموعات الواتساب الافتراضية.
الإسلاميّ الذي يكنّ ولاء أعمى لتركيا يتّهم العلماني بالسفسطة والارتهان للغرب الأميركي. وقارع الدف من الجماعات المحسوبة عقائديا على الفكر العروبي الشوفيني يرى في جهود دعم الأقليات شقّا للصفّ ونزعة انفصالية هدفها تقسيم البلاد بمساعي الغوغاء من الشعوبيين. أما الأيديولوجيون الذين ينتمون إلى اليسار السوفييتي البائد فمازالوا لا يعرفون إلى أيّ الجانبين سيميلون بعد أن تحولت روسيا الاتحادية – وريثة العهد السوفييتي – إلى دولة محتلة لبلدهم الذي خرجوا يدافعون عن وحدته واستقلاله وسيادته.
من نافلة القول إن نصف قرن ونيف من العيش في ظل منظومة سياسية تغيب فيها الفرص لتكون حكرا على قلة من المقربين من رأس الحكم في سوريا – الأب الأسد سابقا والابن لاحقا – هو سبب رئيس لتجذّر هذا النهج المبالغ فيه من الشك بشركاء المشروع الواحد، والانغلاق المبنيّ على الخوف والرهاب من ندرة الفرص، وضرورة التشبث فيها حين الوصول إليها وإقصاء كل صاحب كفاءة يمكن أن يكون بديلاً، وسط اعتقاد راسخ بأن هناك (سوريا ما يتربص في مكان ما لاقتناص الفرصة من صاحبها).
هذا ناهيك عن سياسة فرّق تسد التي كانت ولم تزل استراتيجية منهجية لدى النظام وأزلامه ينفخون سمومها بين أبناء الشعب الواحد من خلال نظام قام على الفرز العنصري، والاستناد إلى مرجعية الطائفة العلوية، في حين أن كبار مفكّريها كانوا ينفرون من آل الأسد ويمقتون استبدادهم وفسادهم، ويحسبون على عتاة منتقديه من أمثال المفكر المسرحي سعدالله ونوس، والدكتور الطبيب عبدالعزيز الخير، واللواء رفيق السلاح صلاح جديد… وغيرهم ممن تفنن الأب والابن في اختلاق أسباب ودواع لكمّ أفواههم أو تصفيتهم.
فصل المقال أن “حروب الآخرين” على الأرض السورية قد زجّت بالسوريين جميعا في مرجل واحد لن ينقذنا وينقذ سوريا من أتونه سوى العودة إلى وحدة الهدف والكلمة، واستنهاض الغاية السورية الوطنية الخالصة، تلك التي خرج لها السوريون أول ما خرجوا بأزهار القرنفل يرفعونها في المسيرات السلمية في شوارع مدن غوطة دمشق، لا يقصدون مالاً ولا مناصب ولا علاقات ولا محسوبيات، بل يرددون صوت الحق وقد أطلقته حنجرة القاشوش التي قطعها سكّين القتلة من مرتزقة الأسد ليتوقف عن الغناء صادحا “يا الله ارحل يا بشار”!.