في قبضة الشرطة

لا تزال غزة محتقنة وتنتج الكثير من الظواهر الجديدة، منها ما هو محزن ومنها ما يبعث على التندر والتضاحك. فقبل نحو أسبوعين، تداول نشطاء التواصل شريطا لشاب يرتدي بزة عسكرية ويقرأ بيانه الأول بلغة انقلابية صارمة، ويعلن عن قيام “حركة وعد الآخرة”. وفي الحقيقة، مرّ على غزة الكثير من الظواهر والغرائب الناشئة عن حال البؤس، كان من بينها مُطرب من طراز خاص، يُدعى عادل المشوخي، تجاوز شعبان عبدالرحيم إلى ما وراء، وأطلق أغنيات بلا معان.
قوبل بيان “وعد الآخرة” بالتغريدات الساخرة. وحدث نوع من التسلية والتضاحك أو الفضفضة. فـ”زعيم” الحركة الجديدة، ظهر وحده، وفات عليه إظهار جنديين أو ثلاثة يقفون خلفه توخيا لخلق انطباع بالهيبة. وركز المتندرون على الشريط، فارتجلوا المفارقات، وتساءلوا ما إذا كانت هذه حركة حقيقية لها حيثيات، أم محض كلام مُرسل، على طريقة عادل المشوخي وأغنيته “خُبيزة وبدي أجيب طوّيطة!”.
في الإنثروبولوجيا (علم وصف الإنسان) ليس جائزا الاستهتار بما ينشأ ويظهر من لقطات اللا معقول، التي تتداعى وتتنوع. فالبيئة الاقتصادية ـ الاجتماعية التي أنتجت أغنية “الخُبيزة” هي نفسها التي أنشأت “حركة وعد الآخرة”. فهذان الناشئان وغيرهما، وظاهرة الانتحار الطارئة على المجتمع المسلم المحافظ، كانت نتاج أوضاع مختلة. والأطرف أن كل ظاهرة جديدة، تستأنس بطواهر سابقة، وكل جديد يستشعر النقص في القديم، وينعكس على مخرجاته، ولا يرى مناصا من الزيادة عليه. فقد ارتجل صاحب البيان الصارم “برنامج” عمله المقبل، وحشد فيه ما يُرضي كل الأطراف، وقدم الوعود بإنجاز ما فشل فيه العلمانيون والأصوليون، واختلطت في البيان وعود الدنيا بوعود الآخرة، لكي يستبق في الأولى يوم القيامة، فيبشر بقرب انتهاء البطالة، وبدء تشغيل العاطلين عن العمل. فقد اشتق جنرال البيان، وعوده من عُثار الحاكمين الذين فشلوا منذ العام 2005 في استكمال تجنيد عدة آلاف من الشباب للعمل في القطاع الأمني، وأبقوا المجندين على مخصصاتهم الرمزية الضحلة، لتنشأ قضية ما يسمى مجندي 2005 الذين تزوجوا وأنجبوا وكبروا في السن، بعد أكثر من خمسة عشر عاما من الوعود والاحتجاجات المطلبية، لحل هذه “القضية”. لذا تعمد صاحب بيان “وعد الآخرة” تقديم وعد دنيوي لهؤلاء وغيرهم، بتوظيف مئة ألف من العاطلين، للعمل في وزارة دفاع الحركة الجديدة. وتساءل المتندرون، عن مصدر المال الذي سيغطي به “الزعيم” كُلفة هذا التوظيف. فمن قائل إن لديه خطة لشفط الغاز من البحر وبيعه قبل أن يُسرق، وفي حال تنفيذ الخطة، ستكون “وعد الآخرة” مشكورة، على حُسن توزيع الثروة عند امتلاكها. وفي الحقيقة، كانت “خُبيزة” عادل المشوخي، في “فن” الأغنية، أكثر تواضعا من “وعد الآخرة” في بيان زعيمها. فهي تُذكر الناس بطعام ميسور ومتاح، هو عبارة عن نبات مستدير الأوراق، ينبت على جوانب الطرقات وفي الحقول، من تلقاء نفسه، ولا يحتاج إلى زارع وبائع، إذ يُقص بحرية ومجانا لكي يُطبخ مع الثوم. لذا كانت الأغنية التي بلا معنى، تتوخى التأسيس لعملية فتح أبواب الأمل.
في البرنامج السياسي، جاء بيان “الحركة” بنتف من كلا الخطابين العلماني والرباني، لإرضاء طرفي الانقسام، الذي لا يختلف اثنان على فداحته. فقد انقسم الفلسطينيون بين خطابين متناقضين، علما بأن أصحاب كلّ منهما، لا يزال يفتش لنفسه عن طريقة لكي يظفر من الغنيمة بالغياب!
لم يصمد صاحب البيان الصارم، مُنتحل “وعد الآخرة” ساعة واحدة، قبل أن يصبح في قبضة الشرطة!