في عقيدة الملالي: الولي الفقيه أولا.. ولو على حساب إيران

ما كلُّ مَن ردَّد الحكمة كان حكيما. والمثال الحيّ على ذلك ترداد مبعوث الولايات المتحدة للشرق الأوسط مقولة سقراط “هناك أمور نعرف أننا لا نعرفها، وهناك أمور لا نعرف أننا لا نعرفها”.
ولا يخفى على أغرار الدبلوماسية أن من أبجدياتها أن التعبير المباشر في السياسة عورة، لأن السياسة لا تقبل أن تتبنى قضية وتُصرّح بأنها تجهل جوانب منها، أو أنها لا تعرف أنها لا تعرفها. فهذا خرق في إستراتيجية تبنّي القضية. إذ تقوم السياسة على الإيهام والمخادعة في تمويه الثغرات.
وهذه الحال تحديدا ما توحي به إستراتيجيات الرئيس الأميركي دونالد ترامب في سياساته الخارجية عموما، والإيرانية خصوصا. ولم يكن تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: “أكبر خطأ اليوم هو محاولة تغيير النظام في إيران بالسبل العسكرية” ارتجالا سياسيا كما توهّم ترامب.
فالأمور التي تتجاهلها سياسة ترامب، رغم أنها تدركها، هي أن العقيدة الأيديولوجية لنظام الملالي في إيران ترسّخ الأولوية المقدّسة للولي الفقيه، وترفعه فوق الوطن ومقدّراته وشعبه. وهذا المبدأ ليس جديدا أو طارئا استجابة لرغبة دكتاتورية في الحكم بغطاء ديني، بل هو إرث عريق في فلسفة الولاء المقدّس، وركيزة أساسية في مفهوم الحكم لدى الشيعة منذ نشأتهم قبل ألف وخمسمئة عام، بل يمكن القول إنّ الولاء للولي هو في جوهر نشأة التشيّع نفسه تاريخيا.
◄ إن تغيير نظام الملالي أعمق بكثير من تدمير منشآت نووية أو صاروخية. فالثقافة التي تقدّس الزمان على المكان، وترتبط بالحاكم كظلّ للمقدّس، متجذّرة في وجدان الشيعة في إيران
وفقا لهذه العقيدة، فإن كلَّ حاكم هو وكيل وممثل زمني للإمام المهدي، إلى حين عودته من الغيبة وظهوره العلني، لينقذ البشرية وينصر ما يُسمّى بـ”الظلم التاريخي الشيعي”. والقدسية المطلقة لصاحب الزمان أصل يقيني في الاعتقاد الشيعي، وكل ممثل زمني قبل ظهوره فرع يكتسب قدسيته من هذا الأصل.
هذا يعني أن الحفاظ على المرشد بوصفه الممثل الزمني للمهدي واستمرار نهجه يُعدّ أولوية مشروعة في السياسة وفي وجدان أتباعه. فالأرض والوطن مجرد وسيلة، لا قيمة لجغرافيتها أو موقعها أو حدودها، إلا بقدر ما تخدم مشروع الولي الفقيه، الذي يُعدّ في هذا الفكر حاكما كونيا، والأرض كلها ولايته. ومن منظورهم، فإن العالم سيتحوّل يوما ما إلى ولاية واحدة تحت حكم المهدي.
لذا، فإن أي خسارة تتكبدها إيران في شعبها أو مقدّراتها لا توازي أبدا خسارة المرشد. وسوف يقاتل المرشد حتى آخر جندي إيراني من دون أن يُبالي بالخسائر والتضحيات، ما دامت لا تمسّ كرسيه. ولن يستسلم إلا حين يحصل على ضمانات موثوقة ببقائه في الحكم.
كل الأسلحة التي صنعتها إيران، ومنشآتها العسكرية، وخلفها القوات البشرية القتالية، ثم الشعب نفسه، ما هي إلا دروع متتالية لحماية الولي الفقيه وتحصينه. وهذه الدروع قابلة للتضحية بها تدريجيا في حال تعرّض الحكم لخطر وجودي مباشر.
أما في أوقات السلم، فتلك الأدوات تُستخدم لخدمة مشروع التوسّع العقائدي الشيعي. فمبدأ الجمهورية الإسلامية في طهران يقوم على احتلال العقول وتشييعها، لا احتلال الأرض. لأن انتشار التشيّع، حسب رؤيتهم، هو من يستولي على الأرض من الداخل.
◄ الحفاظ على المرشد بوصفه الممثل الزمني للمهدي واستمرار نهجه يُعدّ أولوية مشروعة في السياسة وفي وجدان أتباعه. فالأرض والوطن مجرد وسيلة، لا قيمة لجغرافيتها، إلا بقدر ما تخدم مشروع الولي الفقيه
تعتقد السياسة الأميركية والإسرائيلية أن تدمير الأسلحة والمنشآت الإيرانية سيُضعف حكم المرشد ويُمهّد لثورة داخلية ضده. بينما ترى إستراتيجية الحكم في طهران أن الحرب، حتى لو دمّرت البنى العسكرية، لا يمكنها تدمير القوة البشرية الدفاعية عن النظام، المتمثّلة في “الباسيج”، والاستخبارات، والحرس الثوري. وهذه الجهات، بأسلحتها الفردية وأدوات القمع، تضمن استمرار النظام وقدرته على احتواء أي حركة احتجاجية أو معارضة داخلية.
والمرشد، إن شعر بخطر الإطاحة به، فلن يتوانى عن الإطاحة بإيران نفسها، عسكريا واقتصاديا. وحتى اللحظة، لا تزال الضربات العسكرية الإسرائيلية تمنحه هامشا للمناورة. لذا سيظل يتعالى على أي مفاوضات توحي بالهزيمة. ولكن، حينما يقترب الخطر من الحكم نفسه، سيرضخ ولو لمفاوضات الاستسلام، وسيُغلّفها بمصطلحات تحفظ ماء الوجه.
إن تغيير نظام الملالي أعمق بكثير من تدمير منشآت نووية أو صاروخية. فالثقافة التي تقدّس الزمان على المكان، وترتبط بالحاكم كظلّ للمقدّس، متجذّرة في وجدان الشيعة في إيران. وهذه الثقافة ولّدت روحا فدائية لا تهزمها كثرة التضحيات ولا قسوتها، والتاريخ الشيعي يؤكد ذلك.
بل حتى اغتيال المرشد لن يكون كافيا لتقويض النظام، لأن شبكة الحكم في طهران مركّبة بطريقة لا ينهار الهرم إذا سقط رأسه. التغيير الحقيقي لن يأتي إلا من داخل هرم الحكم ذاته، على طريقة “البروسترايكا” السوفييتية. أي تفكيك الحكم على يد قادته، وإعادة هيكلته من الداخل بنقض الخيوط التي نسجت سلطته.
اقرأ أيضا:
• ترامب يعرض على إيران "تجرع السم"!
• هل من مستقبل للنظام الإيراني؟