في "صالة أورفانيللي" كل شيء معروض للبيع حتى البشر

لا يتوقف دور الروايات التاريخية عند العودة إلى الماضي القريب أو البعيد وسرد تفاصيله كما هي، بل هي أعمال إبداعية لا تسعى إلى التأريخ بقدر ما تحاول إضافة الخيال إلى الواقع، ومزج أحداث وشخصيات التاريخ بأحداث وشخصيات من صنع الخيال، كل ذلك لتشكل عالما موازيا لتحقيق قراءة جديدة للتاريخ، وهذا ما نجده في رواية “صالة أورفانيللي” للروائي المصري أشرف العشماوي.
القاهرة - على سطح مرآة براقة، يعكس الروائي أشرف العشماوي في روايته الجديدة تغيرات المجتمع المصري اقتصاديا وسياسيا خلال فترة الانتقال من الملكية إلى الجمهورية، عبر صالة مزاد بوسط القاهرة يُباع فيها كل شيء ويُشترى، حتى البشر.
“صالة أورفانيللي” هي الرواية التاسعة في رصيد العشماوي الذي يعمل بسلك القضاء، إضافة إلى كتاب وثائقي عن سرقة الآثار المصرية وتهريبها.
كل شيء مزاد
تدور أحداث رواية “صالة أورفانيللي” حول شريكين مصريين، أحدهما يهودي وهو الأكثر طيبة، يؤسسان معا صالة مزادات في الثلاثينات ليمدا علاقات واسعة بكبار رجال الدولة المصرية، والأثرياء والأجانب، وتدور حكايات مدهشة حول التشابكات الاجتماعية لحاشية الملك، وخيوط الفساد.
وتنطلق الرواية، الصادرة أخيرا عن الدار المصرية اللبنانية، من حقبة ثلاثينات القرن العشرين، حيث يعمل الصديقان منصور التركي وأورفانيللي إستيفان ألفيزي في وزارة التجارة، لكن أوضاعهما المالية كانت متعثرة.
يستغل منصور كل ما ورثه صديقه اليهودي عن أبيه في شراء غرفة نوم قديمة، ثم يبيعها في المزاد بمبلغ كبير باعتبارها من أثاث الخديوي عباس حلمي، ليحقق عائدا ماليا كبيرا من عملية البيع التي كانت حلم كل منهما.
يتزوج أورفانيللي من حبيبته ليلى، بينما يشتري منصور صالة مزاد في وسط البلد ويدخل معه أورفانيللي شريكا بالثلث، لتحمل الصالة اسم الاثنين معا “صالة أورفانيللي ومنصور”.

الرواية تعيد تقديم الشخصية اليهودية بنظرة أكثر توازنا، وباعتبارها مصرية أصيلة بعيدا عن الخطاب التحريضي المعتاد
استطاع منصور بقوة شخصيته إقناع صديقه بإبقاء شراكتهما بعيدة عن الأوراق الرسمية لأن أورفانيللي لا يزال موظفا في وزارة التجارة، وهو الموقع الذي استفادا منه حتى أصبحا يمتلكان أكبر صالة مزاد في مصر.
لم ترضَ ليلى يوما عن منصور أو طريقة الشراكة السرية التي فرضها على زوجها، وزاد من غضبها إصرار أورفانيللي على تسمية ابنهما الوحيد اسما مركبا يعكس الصداقة المتينة بينه وبين شريكه، فأطلق عليه أورفانيللي منصور.
ورغم تحسن أوضاع الزوجين المالية وانتقالهما إلى مسكن جديد وشراء سيارة لم تشعر ليلى بالأمان، فحثت زوجها المنشغل طوال الوقت بعمله في الوزارة على الدفع بالابن الصغير للاشتغال بصالة المزاد في أوقات العطلات. لكن مع إظهار الطفل براعة وذكاء أصبحت الصالة هي كل حياته.
وبمرور الوقت ذاع صيت صالة المزاد، وتردد عليها كبار الشخصيات إلى أن زارها ذات يوم الملك الشاب فاروق الأول، وهو ما حاول منصور استثماره فأقنع ليلى، القلقة على حقوق زوجها وابنها في الصالة، بالذهاب إلى القصر لعرض بعض المقتنيات الثمينة على “مولانا”.
في اليوم ذاته مات أورفانيللي وتحولت ليلى إلى نزيلة بمستشفى بهمان للأمراض النفسية، ليصبح ابنهما وحيدا في كنف منصور التركي الذي رعاه وعلمه أسرار العمل وإن ظل متوجسا منه.
يلقنه منصور دروس الحياة، وهو ما يظهر في حديثه إليه حول أن كل شيء عبارة عن مزاد، الكهرباء الماء السيارة الخواتم والمجوهرات، كل شيء جاء عن طريق مزاد ما، وحتى هو الصبي معروض في مزاد، لكنه ينتظر دوره.
الثورة وما بعدها
بعد سنوات تغتال رصاصات من مجهول منصور التركي أثناء مزاد كبير، لتبدأ رحلة صراع جديدة على ملكية الصالة، ويخوض أورفانيللي الابن رحلة طويلة تقوده إلى فرنسا ثم القاهرة بحثا عن استعادة حق والديه.
وبينما تزخر الرواية بتفاصيل شيقة ومعلومات متخصصة عن عالم المزادات، وتركز في أحداثها على الصراع الدامي لامتلاك الصالة، يمد المؤلف خيوط الأحداث بين الواقع والخيال، فيستحضر شخصيات عامة ورجالا عاشوا حول الملك، ليدفع بهم في طريق أبطاله ويمزج مصائرهم معا، حتى يذوب الخيط الفاصل بين الخاص والعام وبين الفرد والوطن.
كما تتطرق الرواية بشكل سلس وغير مباشر لأوضاع اليهود في مصر قبل ثورة 1952 وبعدها، من خلال نماذج تنتمي إلى مستويات اجتماعية وفكرية مختلفة، لاسيما البطل الرئيسي أورفانيللي الابن.
أما في تناولها لفترة ما بعد ثورة 1952 فتثير الرواية موضوعات شائكة تضاربت فيها الحكايات، منها مآل ممتلكات أسرة محمد علي، التي صودرت وبيع الكثير منها في المزاد، ومزاعم استيلاء بعض رجال الثورة عليها وتربحهم منها.
ويبقى أكثر ما يميز الرواية أسلوب سردها الذي أسنده المؤلف إلى ثلاثة أشخاص هم أورفانيللي إستيفان ألفيزي ومنصور التركي وأورفانيللي منصور، فلا يكاد أحدهم ينتهي من سرد ما رآه وعايشه حتى يأتي التالي ليكشف ملابسات وتفاصيل أخرى تعيد صياغة الأحداث برؤية مختلفة، فتبدو الرواية في نهايتها وكأنها عمل ثلاثي الأبعاد.
وقد نهج العشماوي مسار سرد التاريخ بلغة مغايرة، وهو ذاته نهج رواياته التاريخية السابقة له، غير أنه أعاد هذه المرة تقديم الشخصية اليهودية باعتبارها مصرية أصيلة، بعيدا عن الخطاب التحريضي المعتاد، وتعرّض ضمن خلفيات رواياته لمعاناة عائلات يهودية في مصر بسبب تحولات السياسة، دون أن تكون طرفا أصيلا فيها.
وتتابع في الرواية الأحداث السياسية ويتم الضغط على اليهود شعبيا، بعد تأسيس دولة إسرائيل، وصعود جماعة الإخوان المسلمين، ويتعرضون لتفجيرات وحوادث إرهابية وازدراء سلطوي بعد ثورة يوليو 1952، فيضطر بعضهم للهرب، والبعض الآخر لتزوير هوياتهم.