في تونس.. مواجهة وقودها التلاميذ

المعلمون يستطيعون شلّ قطاع التعليم ولكنهم لن يستطيعوا إرغام الحكومة على الخضوع لمطالبهم ببساطة شديدة لأن النقود لا تنمو على الشجر. فما تحتاجه تونس هو فسحة لتشجيع الاستثمارات مهما بلغ حجم التضحيات.
الخميس 2023/07/13
أين تبدأ شرعية مطالب المعلمين وأين تنتهي؟

التعليم ثروة تونس وجوهرة تاجها. هو الإرث الأهم الذي تركه الراحل الحبيب بورقيبة للبلاد، الزعيم الذي تعتبر إصلاحاته في التعليم فريدة من نوعها على مستوى العالم الثالث، حيث استطاع مضاعفة عدد التلاميذ الذين يرتادون المدارس 10 مرات خلال 10 سنوات. وهو ما ثمنه الرئيس التونسي قيس سعيد مؤخرا بقوله: إن بورقيبة أحدث ثورة حقيقية عن طريق التعليم. وثورة ثقافية عن طريق تعميم التعليم.

المؤشرات الدولية تشير إلى أن تونس تبوأت مراتب متقدمة في التعليم، على المستوى العالمي والمستوى العربي، ولكنها تراجعت خلال السنوات العشر الماضية. ويعزى جزء كبير من التراجع إلى تدني الأوضاع المعيشية للكادر التعليمي. وهو ما أدى إلى تصاعد حركة الاحتجاج والإضرابات في قطاع التعليم. وتسببت المطالب المهنية والمادية للأساتذة والمعلمين، بارتفاع معدلات الهدر المدرسي.

وتظهر المقارنات الدولية لجودة التعليم أن تونس باتت تحتل مراتب متأخرة في مهارات القراءة والرياضيات والعلوم. وأن نسبة كبيرة من الطلاب لا يصلون إلى مستوى الكفاءة المطلوب، وهناك أعداد كبيرة أيضا من التلاميذ يتسربون من الدراسة قبل إكمال مرحلة التعليم الإجباري.

◙ تونس ليست الدولة الوحيدة التي تشهد تآكل الطبقة الوسطى، هذه  ظاهرة يمكن تعميمها اليوم على معظم دول العالم، لا تستثنى من ذلك دول الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة

الصورة ازدادت قتامة إثر وباء كورونا وإثر الحرب الروسية في أوكرانيا وموجة الجفاف، خاصة بعد سنوات الفوضى التي تلت “الربيع العربي”، وهي عوامل أدت مجتمعة إلى ارتفاع كبير في أسعار المستهلكين وتدني القدرات الشرائية للمواطن التونسي.

آخر ما تريده تونس، التي دخلت في نفق مسدود في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي الذي يفرض عليها قائمة من الشروط من بينها تثبيت الأجور والانتدابات في الوظائف الحكومية للحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار، هو إضرابات على مستوى كبير ومطالبات بزيادة الأجر.

العام الدراسي الحالي، شهد رفض مدراء ومعلمي المدارس في تونس معالجة تقييم الاختبارات والامتناع عن مد التلاميذ بنتائج اختباراتهم مطالبين بتحسين رواتبهم. ولم تجد الحكومة بدا من إعفاء 350 مدير مدرسة من مناصبهم وحجز أجور 17 ألف معلم.

في ظل الأوضاع الصعبة التي وضعت تونس على حافة الإفلاس، أين تبدأ شرعية مطالب المعلمين وأين تنتهي؟

لا جدال أن الزيادات التي شهدتها الأسعار، سواء المواد الغذائية أو السلع الإلكترونية والمحروقات والملابس والخدمات، مرهقة. وكان من نتائجها تراجع المستوى المعيشي للطبقة الوسطى، التي رأت نفسها فجأة أقرب إلى الطبقة الفقيرة المحدودة الدخل.

تاريخيا، شكل العاملون في قطاع التعليم الشريحة الأكبر من الطبقة الوسطى في تونس، حيث بلغ عددهم حسب أرقام تقريبية 237 ألف موظف، وهم أكثر من الثلث بقليل من مجموع العاملين في مختلف القطاعات الحكومية الذي بلغ 671 ألف عامل وموظف بنهاية عام 2020.

لا نستغرب أن يكون الإحساس بالغبن والظلم مضاعفا بين العاملين في قطاع التعليم، لسببين: الأول، أنهم اعتادوا أن يعيشوا حياة مرفهة نسبيا في الماضي. والثاني، انتماؤهم لطبقة المثقفين الذين يمتلكون حسا وفهما أكبر للقضايا الاجتماعية والظلم الاجتماعي.

قول ما سبق، لا يمنح المعلمين والأساتذة شرعية الإضراب عن تقييم الاختبارات وعدم مد التلاميذ بنتائج اختباراتهم. وهو إن منحهم ذلك نظريا، إلا أنه لا يمنحهم هذا الحق أخلاقيا.

اقرأ أيضا:

آخر ما تحتاجه تونس هو إضافة مشكلة أخرى إلى قطاع يعاني العديد من المشاكل.

ما تحتاج إليه تونس هو فسحة وهدنة لتشجيع الاستثمارات الداخلية والخارجية لتحقيق نسب نمو عالية، مهما بلغ حجم التضحيات. يستطيع المعلمون تقديم استقالاتهم، ويستطيعون أيضا شلّ قطاع التعليم، ولكنهم لن يستطيعوا أن يرغموا الحكومة على الخضوع لمطالبهم، ببساطة شديدة لأن النقود لا تنمو على الشجر.

لن  يكون أمام الحكومة التونسية إن أكرهت على الامتثال لمطالب المعلمين سوى اللجوء إلى طباعة العملة المحلية دون رصيد يسندها من العملات الأجنبية والذهب، وهو أمر خطير خاصة في ظل اقتصاد ضعيف، عندها لن يستطيع أحد حماية الدينار التونسي من الانهيار، لتصل معدلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة تضيع معها الزيادات مهما بلغ حجمها.

أيضا يجب أن لا ننسى أن الامتثال لمطالب المعلمين سيشجع العاملين في القطاعات الأخرى على اتخاذ موقف مشابه.

وهو ما دفع وزير التربية محمد علي البوغديري الاثنين الماضي إلى وصف ما يحدث في تونس في علاقة بحجب أعداد التلاميذ بـ”فضيحة” في تاريخ تونس، وتعهد بوضع حد لها “كلفنا ما كلفنا ذلك”. رغم تأكيدات جامعة التعليم الأساسي أن 70 في المئة من المديرين قدموا استقالات جماعية.

وشبه البوغديري عدم حصول التلاميذ على الأعداد المدرسية (التقديرات) بالكارثة، و”جريمة في حق أبناء الشعب التونسي”. وأكد أن القانون هو الفيصل بين الحكومة ومن يتجاوز القانون، مضيفا “من يتخيل أن السلطة ضعيفة فهو واهم”.

القضية لا علاقة لها بالقوة والضعف. ببساطة شديدة لا تمتلك الحكومة التونسية في الظرف الحالي الذي تمر به البلاد ما يمكن أن تقدمه لإرضاء المعلمين.

في مثل هذه الظروف، هل توقف المعلمون ومعهم النقابات واتحاد الشغل قليلا للتفكير إن كان تنفيذ مطالبهم ضمن قدرات وإمكانيات الحكومة التونسية.

لا شك في أن الرئيس قيس سعيد، ومعروف عنه تبجيله للمعلم، ما كان ليتردد ولو قليلا في إنصاف المعلمين لو كان في خزينة البنك المركزي ما يكفي لذلك.

◙ تاريخيا، شكل العاملون في قطاع التعليم الشريحة الأكبر من الطبقة الوسطى في تونس، حيث بلغ عددهم حسب أرقام تقريبية 237 ألف موظف

ميزانية الدولة في تونس لعام 2023 بلغت 20.5 مليار دولار، توزع على 34 مهمة وبرنامجا تشمل مختلف القطاعات والوزارات والمؤسسات العمومية، تشكل الأجور الجزء الأكبر منها (6.7 مليار دولار).

في ظل موجة الغلاء العالمي، هذه مهمة تكاد تكون شبه مستحيلة.

هناك أولويات، منها مثلا استيراد 200 ألف طن من القمح اللين والقمح الصلب، حتى لا تفرغ الأفران من الخبز، وحتى لا تفرغ رفوف المحلات التجارية من السميد والمعكرونة، وحتى يجد الزواولة (الفقراء كما يشار إليهم في تونس) ما يعودون به إلى أطفالهم.

تونس ليست الدولة الوحيدة التي تشهد تآكل الطبقة الوسطى، هذه  ظاهرة يمكن تعميمها اليوم على معظم دول العالم، لا تستثنى من ذلك دول الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة.

في ظل هذه الظروف الجميع يشعر بالغبن والضيم، ومن حق الجميع المطالبة بتحسين وضعه المعيشي، لا خلاف على ذلك، الخلاف الوحيد هو أن نتذكر دائما أن علينا أن نطلب ما هو مستطاع وأن لا نحول التلاميذ إلى وقود مواجهة بين الكبار.

رسالة المعلم التي استحق عليها التبجيل، هي أهم اليوم مما كانت عليه بالأمس، مع تحول العالم إلى الاقتصاد المعرفي واقتصاد الذكاء الاصطناعي.

8