في الذكرى الـ42 للتأسيس: حركة النهضة ورحلة التمكين السياسي

التحولات المحلية والإقليمية دعمت خيار تسييس الدين وهمشت المدونة الفكرية.
الأحد 2023/06/11
لم يتغير شيء من التأسيس إلى الأن

منذ أيام قليلة، مرت ذكرى تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي، التي تحولت لاحقا إلى حركة النهضة. من البداية غاب البعد الديني التربوي في أدبياتها ونشاطها مقابل تضخم البعد السياسي الذي قادها إلى صراع لا يكاد يتوقف مع السلطة ليتراوح من المداهنة إلى التصعيد فالسجون ثم إطلاق السراح.

تستعيد حركة النهضة الإسلامية في تونس ذكرى تأسيسها الثانية والأربعين (6 يونيو 1981) في ظروف صعبة، حيث لم تغادر مربع السباق السريع نحو السلطة الذي ينتهي ككل مرة إلى صدمة تعيد الحركة إلى السجون. حدث هذا في 1986 و1989 ثم في 2023.

في البداية كانت الحركة جماعة إسلامية متناقضة المشارب والاتجاهات. المؤطرون كانوا من شيوخ الزيتونة، والفاعلون كانوا قادمين من الشرق بشكل جعل الشباب الذين تم استقطابهم مذبذبين بين خطين متناقضين.

◙ البيان التأسيسي للاتجاه الإسلامي حمل مفردات بدت وكأنها لفصيل يساري وليس لجماعة إسلامية تمزج البعدين الإخواني والزيتوني

خط زيتوني مالكي يؤمن بالإصلاح، ويشتغل على ربط المجتمع بالدين بما هو صلاة وصيام وسلوك فردي في مواجهة صعود قوي لعلمانية شبابية من خريجي الجامعات الذين كانوا أميل إلى العلمانية الفرنسية.

وخط وافد يقوده راشد الغنوشي كان متأثرا بأدبيات الإخوان ومواقفهم الراديكالية من أنظمة الحكم، وتركيزهم على الوصول إلى السلطة كأداة رئيسية، سريعة وفعالة، لتحقيق أجندة الجماعة، من دون تفكير في مجالات أخرى للتغيير، أو الصبر على عملية “أسلمة” المجتمع.

المؤسسون في الجماعة احتموا بشيوخ الزيتونة الذين كانت لهم شرعية شعبية بالرغم من خلاف الطيف الزيتوني مع الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة لأسباب بعضها سياسي مثل معارضتهم اتفاق الاستقلال الداخلي، ولاحقا اصطفافهم وراء صالح بن يوسف، وتعاطفهم مع جمال عبدالناصر، وبعضها فكري من خلال معارضتهم لمسار التحديث الذي كان بدأ به الرئيس الراحل خاصة ما تعلق بمدونة الأسرة.

نجح هؤلاء في التمويه على الزيتونيين واستخدامهم كمظلة قبل أن ينفضّوا من حولهم ويؤسسوا “الجماعة” التي تحولت على عجل إلى حزب “الاتجاه الإسلامي” في 1981 ثم إلى حركة النهضة في 1988 في سياق مسار التهدئة مع الرئيس الراحل زين العابدين بن علي ووعود تلقوها بإمكانية الاعتراف بهم كحزب سياسي علني إذا تنازلوا عن الصفة الإسلامية.

وبسبب هذا الانفصال المستعجل والقطيعة مع البيئة الدينية المحلية وجد الإسلاميون أنفسهم في العراء بمواجهة مع السلطة السياسية التي لم تكن تقبل وقتها بحزب سياسي معارض، فضلا عن حزب بخلفيات دينية يردد أتباعه شعارات فضفاضة عن الحاكمية وتحكيم الشريعة في حياة الناس، وبمواجهة الشارع الذي تسيطر عليه الثقافة الصوفية الطرقية التي تجعل الدين شأنا بين العبد وربه، وتفصله عن الحياة العامة بما يعبّر عنه المثل العامي “أدّ الفرض وأنقب الأرض”، أي صلّ وافعل ما بدا لك.

◙ طالما أن أفكار الإخوان التي جلبها الغنوشي من الشرق لم تكن تحتوي على مصطلحات واضحة، فقد اتكأ الإسلاميون على الثورة الإيرانية
طالما أن أفكار الإخوان التي جلبها الغنوشي من الشرق لم تكن تحتوي على مصطلحات واضحة، فقد اتكأ الإسلاميون على الثورة الإيرانية 

لكن الصدمة/الصدام الذي وجد الشباب الإسلاميون أنفسهم أمامه، وهم القلة الذين تم استقطابهم من الجماعة، هو دخول جامعة كان يسيطر عليها اليسار الراديكالي، الذي يرفع شعارات كبرى عن تغيير العالم بـ”العنف الثوري”، ويدافع عن أممية تقودها الطبقة العاملة مع موجة تحرر واسعة من البعد الديني بين الطلبة ولدى الخرجين الجدد لقيادة مؤسسات دولة وطنية وليدة.

لم تكن الدعوة إلى الدين بالمفهوم الكلاسيكي قادرة على مواجهة هذا التيار الشبابي الجارف نحو اليسار ونحو التحرر السلوكي تحت تأثير التحولات الثقافية والفكرية العالمية، وخاصة في فرنسا التي كانت وما تزال مؤثرة في تونس.

اختار الإسلاميون الاندماج في اللعبة من خلال التركيز على البعد السياسي في نشاطهم. وطالما أن أفكار الإخوان التي جلبها الغنوشي من الشرق لم تكن تحتوي على مصطلحات واضحة، فقد اتكأ التيار الإسلامي السني على الثورة الإيرانية التي أعطته دفعة قوية ومنحتهم جهازا مفاهيميا يزايدون به على اليسار مثل “الموت لأميركا، الموت لإسرائيل”، وثنائية الاستكبار والاستضعاف كمعادل مضاد للإمبريالية والطبقة العاملة في الفكر الماركسي. كما شجعهم مفهوم تصدير الثورة من الجانب الإيراني والأممية الماركسية إلى تبني خيار الجماعة كفرقة عابرة للحدود، والقطيعة مع كل ما هو محلي بما في ذلك البعد الزيتوني الذي تربوا بين شيوخه ومساجده وخطبه.

حمل البيان التأسيسي لحركة الاتجاه الإسلامي مفردات بدت وكأنها لفصيل يساري وليس لجماعة إسلامية، حيث جاء فيه أن تونس تعرف “أوضاعا خصوصية اتسمت بالتأزم واحتداد الصراع الاجتماعي وتعطل سبل النمو الشامل. وقد تكرّس هذا الوضع نتيجة أحادية الاتجاه السياسي المتحكم ’الحزب الدستوري” وتدرّجه المتصاعد نحو الهيمنة على السلطة والمؤسسات والمنظمات الجماهيريّة من ناحية، ونتيجة ارتجالية الاختبارات الاقتصادية والاجتماعيّة وتقلبها وارتباطها بمصالح دوليّة تتعارض مع مصالح شعبنا الوطنية من ناحية أخرى”.

زادت التحولات المحلية والإقليمية في تجذير خيار تسييس الدين لدى الإسلاميين وكان البعد الديني العقائدي هامشا ضمن الرؤية، وليس كسلوكيات فردية. مع الوقت أضاف الإسلاميون للراديكالية التي تشربوها من سيد قطب وأبوالأعلى المودودي، ومن شعارات يسار الجامعة، ومن مفردات الثورة الإيرانية والولع بعلي شريعتي، عنصرا جديدا هو المناورة أو بالأدق المناورة من خلال الرهان على مصالحة السلطة واستثمار أيّ تهدئة للتجهز إلى ما يمكن وصفه بالتمكين، أي السيطرة عبر الاختراق السريع، وتنويع الخيارات من الانقلاب (1987) إلى العصيان المدني (1991) إلى الديمقراطية الشكلانية (2011 – 2019).

رغم أن الحزب الجديد (الاتجاه الإسلامي) لم يكن معروفا بالقدر الكافي، ولم تكن السلطة تهابه بالقدر الذي كانت تفكر فيه في صراعها مع اليسار الراديكالي، إلا أن حدية خطاب الإسلاميين واستهدافهم بالانتقاد رأس السلطة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، فضلا عن الضجة القوية التي أفرزها احتكاكهم باليسار في الجامعة، وما رافقه من عنف متبادل. كل هذا قاد السلطة إلى اعتقال عدد من مؤسسي الحزب ووجوه بارزة من قياداته الطلابية.

◙ المؤسسون في الجماعة احتموا بشيوخ الزيتونة الذين كانت لهم شرعية شعبية بالرغم من خلاف الطيف الزيتوني مع الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة لأسباب بعضها سياسي

هزت صدمة الاعتقالات الأولى قناعة الإسلاميين بالخطاب الثوري الذي يرفعونه، مع نجاح السلطة في وسمهم بالخمينيين بالتزامن مع تعاطف تونسي واسع مع العراق في حرب الثماني سنوات (1980 – 1988)، وبحثوا عن المصالحة مع السلطة ووجدوا تجاوبا مع رئيس الحكومة آنذاك محمد مزالي ليتم إطلاق سراح المسجونين وتبدأ الحركة/الحزب في التطبيع مع السلطة.

لكن الأمر لم يستمر طويلا لتبدأ ملاحقتهم بين 1986 و1988 لينقذهم صعود الرئيس الراحل زين العابدين بن علي للسلطة، ويكرروا معه التهدئة ويطلقوا تصريحات داعمة له قبل أن تتوتر العلاقات سريعا بسبب تحشيد الإسلاميين لانتخابات 1989 ورهانهم على استثمار التهدئة للسيطرة على السلطة في انتخابات شبيهة بما جرى قبل عام في الجزائر حين سيطرت جبهة الإنقاذ على الانتخابات في دورها الأول قبل أن يوقف الجيش الدور الثاني.

وإذا بحثنا في مدونة الإسلاميين منذ تحولهم إلى حزب سياسي إلى الآن لا نجد سوى مجموعات قليلة من الكتب أغلبها من تأليف رئيس الحركة راشد الغنوشي، وكتبت في أغلبها حين كان في بريطانيا وتركزت على إقناع الغرب بديمقراطية الإسلاميين. وفي النهاية، فإن هذه الكتب، أيّا كان كاتبها، تساعد على تعميق هوس الإسلاميين بالبعد السياسي، والتأصيل له.

لم يكن للإسلاميين مقاربة للسينما أو المسرح أو الموسيقى، وحتى وإن وجدت فهي ضمن خيار شخصي لبعض العناصر، وما تزال تراوح مكانها عند مرحلة الأناشيد الدينية التي استقدموها من الشرق كـ”بديل” للموسيقى السائدة. والأدب نفسه، رواية وشعرا، ليس للإسلاميين فيه تجارب عدا ظاهرة أدب السجون، التي هي امتداد موضوعي لتضخيم البعد السياسي.

6