في التشابه والاختلاف بين النفط والبيانات

الذكاء الاصطناعي نفط المستقبل.. ومن يمتلك البيانات يمتلك العالم، عبارتان تم ترديدهما في أكثر من مناسبة وأكثر من مكان، وأثارتا الكثير من الجدل، ومهما كان الخلاف حولهما يتفق الجميع أن لا مستقبل للدول والشعوب بعيدا عن التكنولوجيا الذكية.
المقارنة بين النفط والذكاء الاصطناعي وبين النفط والبيانات مغرية، وكنت واحدا من بين كثيرين وقعوا ضحية هذا الإغراء، منذ وقت مبكر، على الأقل في مقالين، الأول حمل عنوان من يمتلك البيانات يحكم العالم، وكان ذلك منذ ثلاث سنوات تقريبا (2021/10/9). والثاني البيانات نفط العالم الجديد والذكاء الاصطناعي كهرباؤه.
هناك أكثر من سبب لإجراء هذه المقارنة، فالبيانات هي “الإوزة التي تبيض ذهبا”، والذكاء الاصطناعي فتح الأبواب على “فورة” غير مسبوقة تاريخيا لجني المكاسب والأرباح، تذكرنا بفورة الذهب وفورة النفط.
ما يستحق الجدل هو هل يمكن لأي جهة حكومية أو خاصة أن تحتكر ملكية البيانات وبالتالي ملكية الذكاء الاصطناعي؟
طالما ارتبط ذكر البيانات بالتجسس، وقد تكون حادثة جوليان أسانغ التي أسدل عليها الستار بعد 14 عاما، واحدة من أبرز القصص المتعلقة بأمن البيانات، والموازنة بين الحق في الوصول إلى المعلومات والحاجة إلى الحفاظ على الأمن القومي وحماية البيانات السرية.
عندما نتحدث عن البيانات التي تغذي الذكاء الاصطناعي فنحن نتحدث عن المعلومات التي أنتجتها البشرية عبر آلاف السنين
الثورة الرقمية التي ساهمت في سرعة انتشار المعلومات، فتحت شهية القراصنة لاختراق مراكز البيانات والاستيلاء على المعلومات بغرض السرقة والابتزاز، وتصل أحيانا لتهديد الأمن القومي. ومن هذه الزاوية يمكن فهم ما ذهب إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما قال: “من يمتلك البيانات يمتلك العالم”.
ولكن، عندما نتحدث عن البيانات بوصفها المادة التي تغذي الذكاء الاصطناعي، فنحن نتحدث عن المعلومات التي أنتجتها البشرية على مدار آلاف السنين، وهي معلومات كانت متاحة دائما أمام الجميع، تحكمها فقط قوانين الملكية الفكرية.
التخلف عن اللحاق بركب الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي هو ما يجب أن يخيفنا، وليس البيانات وأنظمة الذكاء الاصطناعي نفسها.
في النهاية من عليه أن يخاف هي الدول التي تصنف متقدمة. مع بداية الثورة الصناعية وحتى مع وصولها لمرحلة الأوج، كان صعبا على الدول النامية والفقيرة اللحاق بالركب الصناعي. حتى الدول القليلة التي حاولت ذلك فشلت فشلا ذريعا، فالصناعة كانت حينها تعتمد ليس فقط الأيدي العاملة الماهرة، بل على البنية التحتية وتحتاج لاستثمارات ضخمة تفتقدها هذه الدول التي حكم عليها بالبقاء معتمدة على الاقتصاد الريعي، ورهينة لانحباس المطر والكوارث الطبيعية.
هناك اليوم من يتنبأ بأفول عصر الاستعمار، وأن الدول الكبرى بدأت تفقد وزنها الاقتصادي بتأثير من ثورة المعلومات والذكاء الاصطناعي وكمية البيانات الضخمة المتاحة للجميع. بالمقابل هناك من يقول أن استعمار بمحتوى جديد يلوح في الأفق.. من نصدق؟
دعونا ننظر إلى التجربة الصينية ونجاح الولايات المتحدة في ترويض التنين الشيوعي قبل تقديم أية إجابات.
يخطئ من يظن أن فكرة العولمة التي ظهرت مع بداية الحرب العالمية الثانية وانتشرت بعد انتهائها ومع تنامي قوة الولايات المتحدة الاقتصادية، هي مجرد خطوة سياسية. في الحقيقة هذه الخطوة تخفي تحت مظهرها السياسي ضرورات فرضتها مصالح الشركات الكبرى، وهو ما أدى في النهاية إلى التقارب بين الولايات المتحدة والصين بحثا عن ورش تصنيع وبأيد عاملة زهيدة الثمن.
الصين بعدد سكانها الهائل، واقتصادها الريعي كانت المكان المناسب لإقامة ورش الإنتاج وتحقيق أرباح خيالية لرجال الصناعة.
مصالح الشركات نفسها فرضت حديثا، وبعد 45 عاما، نهاية ما بدا أنه شهر عسل طويل بين واشنطن وبكين، عادت الخلافات بينهما ثانية بعد أن لمست الشركات الكبرى رغبة الصين في منافستها.
هذه المرحلة لم تدم طويلا، الذكاء الاصطناعي التوليدي والبيانات وثورة الاتصالات والهواتف الذكية غيرت من كل شيء.
مصالح الشركات الأميركية، وليس الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أو الرئيس الحالي جو بايدن هي ما فرض عودة الأزمة بين واشنطن وبكين، وكان لابد إثر ذلك من العودة للحديث عن تهديدات تطال الأمن القومي.
وهل هناك أفضل من البيانات التي يمكن أن تُعلّق عليه هذه الأوهام، خاصة بعد تسارع ثورة الذكاء الاصطناعي؟ وهل تؤدي التطورات المتسارعة في هذا المجال إلى سيطرة الشركات العملاقة على العالم واستبدال الدول القومية بشركات كبرى تعمل خارج الحدود الوطنية، لنشهد ما يمكن أن نطلق عليه اسم “سوبر عولمة”؟ وهل للمخاوف التي يبديها المحللون والسياسيون ما يبررها؟
في كتابهم “أدوات السلطة” يقول المؤلفون (كيفن. أ. يونج، تارون بانيرجي، مايكل شوارتز) إن المسؤولين الحكوميين مضطرون باستمرار لإرضاء رجال المال وإبقائهم سعداء، خشية مما أسموه “إضراب رأس المال” – أي رفض الاستثمار في صناعات أو مواقع معينة أو نقل ممتلكاتهم إلى بلدان أخرى – وبالتالي فرض عقوبات مادية على مجموعات معينة، أو الاقتصاد ككل. لهذا السبب، حتى السياسيين الذين لا يعتمدون على الشركات لتحقيق نجاحهم الانتخابي، يجب عليهم تجنب إغضاب الشركات العملاقة.
ولطالما وجهت اتهامات لكبرى الشركات بفرض سياسات تخدم مصالحها، حتى ولو كانت هذه السياسات تضر بمصالح العباد؛ مثل التسبب بالحروب، أو تدمير البيئة، أو زيادة المخاطر الصحية. ولا يخفى أيضا أن بعض المؤسسات العسكرية والشركات المتعاقدة معها طالما لعبت أدوار محورية في تشكيل السياسات الخارجية والأمنية للولايات المتحدة.
وليس غريبا ونحن نقارن بين البيانات والنفط، أن نذكر هنا أن شركات الطاقة العملاقة التي تدير صناعات النفط والغاز في الولايات المتحدة تأتي على رأس قائمة الشركات المؤثرة على مراكز صنع القرار السياسي والأمني الأميركي.
القدرة على توظيف البيانات واستخدامها في خلق الثروة هي التي ستمنح من يمتلكها القدرة على التحكم بالمستقبل
وتستخدم هذه الشركات مواردها للضغط على صانعي القرار لدعم مصالحها، بغض النظر عن الإساءات التي قد تسببها تلك المصالح، مثل حفر الآبار في المحميات الطبيعية أو تقليل قيود انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. كما تواجه هذه الشركات انتقادات ودعاوى قضائية بشأن تأثيرها السلبي على المناخ والصحة وحقوق الإنسان.
الولوج إلى البيانات والاستفادة منها باستخدام الذكاء الاصطناعي هو نفط المستقبل. هذه القدرة على توظيف البيانات واستخدامها في خلق الثروة هي التي ستمنح من يمتلكها القدرة على التحكم بالمستقبل.
لقد اكتفت الدول التي أنعم الله عليها، أو أنعمت عليها الطبيعة، بمخزون هائل من النفط ببيعه خاما، بينما استفادت الدول الصناعية وكبار الرأسماليين من هذا النفط في إدارة مصانعهم وفي تصنيع اللدائن إلى جانب التحكم بسعر النفط الخام في الأسواق لفترة طويلة.
ما كان للثورة الصناعية أن تحدث لولا اكتشاف النفط الذي اكتفينا ببيعه، بينما عملت الدول المصنعة على توظيفه والاستفادة منه.
نعم، البيانات هي حقول النفط التي تمد الذكاء الاصطناعي بحاجته من المادة الخام، لا جدل حول ذلك. فهل نكتفي بالبيانات الخام نبيعها بأبخس الأثمان أو حتى تستولي عليها بالمجان، لتكررها بمصافي الذكاء الاصطناعي وتعيد بيعها لنا بسعر باهظ؟
إذا كنا قد عزونا ضعفنا في الماضي إلى ضعف البنية التحتية التي دمرتها وحالت دون بنائها حقبة الاستعمار، ومن كلفة الإنتاج التي لا نستطيع تحملها، علينا أن نعلم اليوم أن أكبر مشاريع التكنولوجيا الذكية والرقمية بدأت من ورش صغيرة، وأحيانا من مرآب سيارة ملحق بمنزل. كل ما علينا فعله هو أن نكف عن الجلوس في مقاعد المتفرجين.
البيانات نفط لا يمتلكه أحد، هكذا كانت بالماضي، وهكذا ستبقى.. من يجيد استخدامها وتوظيفها يمتلك المستقبل.