في البحث عن حلول اقتصادية خارج الكتب الصفراء

قد يكون التذكير بأحداث يوم الجمعة 17 ديسمبر/ كانون الأول عام 2010 مفيدا. في ذلك اليوم أقدم الشاب التونسي طارق الطيب محمد البوعزيزي على إضرام النار في نفسه، أمام مقر ولاية (محافظة) سيدي بوزيد.
الحادث حمل بعدا رمزيا، على الأقل بناء على الرواية التي تناقلها التونسيون في ما بينهم، وتقول إن الشاب تلقى صفعة من شرطية أمرته برفع عربة كان يبيع عليها الخضار، وقالت له ارحل – بالفرنسية ديغاج – لتتحول الكلمة إلى شعار احتجاجات شعبية سرعان ما انقلبت إلى انتفاضة، ليس فقط في تونس بل في بلدان عربية عديدة.
الحادث بالطبع صعب أن ينسى، ولكن ما نسيناه جميعا أن انتفاضة ما عرف بـ“الربيع العربي”، لم تندلع لأسباب سياسية وأيديولوجية، بل لأسباب تتعلق بتأمين لقمة العيش وجدت فيها المعارضة ضالتها، وسرعان ما تحولت كلمة ارحل، إلى العبارة الشهيرة “الشعب يريد إسقاط النظام”.
رحل النظام، في تونس وليبيا ومصر واليمن والسودان، وسادت الفوضى. وبقي في دول أخرى استطاعت أن تقدم حلولا أمنية أو اقتصادية، جنبتها الفوضى.
تأمين لقمة العيش، اليوم، أصبح أشد صعوبة مما كان عليه عام 2010. يمكن سرد قائمة من الأرقام تبين ذلك: نسب التضخم، والمديونية، وفشل الحكومات في تحقيق نسب التنمية، وتفشي البطالة، وتدني سعر العملة وارتفاع الفوائد.
عام 2010 كان العالم يواجه أزمة اقتصادية، بدأت عام 2008، لتظهر آثارها السلبية لاحقا في دول الربيع العربي، وتبخرت معها كل الوعود التي أطلقت. وبينما انشغلت الأحزاب في دول “الربيع العربي” بتبادل الاتهامات في ما بينها، واجتهد كل طرف في تبيان عيوب الطرف الآخر، كان العالم يشهد تبدلات وتحولات جذرية.
التحولات، التي طالت الجانب البيئي والأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وبالطبع التكنولوجي، وصلت إلى ذروتها عام 2020 مع جائحة كوفيد – 19. وكأن ذلك لا يكفي. فقد توجت بعد عامين بغزو روسي لأوكرانيا، نجم عنه ارتفاع في أسعار الطاقة وأسعار المواد الغذائية.
اليوم، لم تعد البطالة الغول الذي تخشاه الدول، بما فيها الدول الغنية، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، التي وصل فيها معدل البطالة إلى أدنى مستوى له منذ أكثر من 47 عاما. ولأول مرة، صار عدد العاطلين عن العمل فيها أقل من عدد الوظائف الشاغرة.
الغول، هو التضخم “المتزايد بسرعة صاروخية” والذي تسبب في تراجع قيمة الرواتب، وألقى بظلاله على أنباء التشغيل الجيدة.
المطلوب مصالحة اجتماعية يتخلى فيها الجميع عن الشعارات وتبادل الاتهامات، والمبادرة الطوعية لشد الأحزمة بحثا عن حل، لن يعثروا عليه حتما في الكتب الصفراء
العقد الأخير شهد نسبة صفر فوائد تقريبا في بريطانيا والولايات المتحدة، هذا الوضع تغير الآن. والعالم اليوم على أبواب مرحلة جديدة نشهد فيها ارتفاعا في نسبة الفوائد، لكبح جماح التضخم.
إن كان هذا حال الدول الغنية، ما هو حال دول الاقتصادات الناشئة والفقيرة. هل ستلجأ هي الأخرى إلى إشهار سلاح الفوائد، لتحافظ على سعر عملتها وتكبح التضخم المتزايد؟ وإن حدث هذا، ما تأثيره على الاستثمار، الداخلي والخارجي، وعلى التنمية، الضرورية لخلق فرص عمل هي في أشد الحاجة إليها، في ظل نسب بطالة وصلت إلى رقمين.
حسب بيانات صندوق النقد الدولي يمثل الغذاء أكبر فئة في سلال التضخم، وهو ما يشكل مقتل دول المنطقة، التي تعتبر من أكبر مستوردي القمح، لتجد نفسها ضحية ارتفاع حاد بنسب التضخم، وصل في معظمها إلى رقمين، مهددا بابتلاع نسب التنمية المتواضعة.
في ظل أسعار فائدة منخفضة جدا، شعرت الحكومات أن لديها شيكا على بياض للاقتراض من دائنين دوليين.. والآن مع ارتفاع أسعار الفائدة، وارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، لن يكون الحل سهلا.
الخيارات محدودة، وهامش المناورة ضيق، لذلك يتعين على صناع القرار، الموازنة بين كبح التضخم والحفاظ على النمو الهش.
الحكومات مطالبة باختيار حل من اثنين. الأول سريع، وهو دعم المستهلك، يفرغ ما لديها من احتياط نقدي، وبالتالي يكشفها ويعمق الأزمة الاقتصادية. والثاني مؤلم وبعيد المدى، وهو السماح للعملة بالانخفاض لجذب الاستثمارات الخارجية.
هناك مجاعة قادمة الجميع بات يتحدث عنها، دفعت البنك الدولي إلى تخصيص 30 مليار دولار لدعم الأمن الغذائي تجنبا للآثار على الفئات الأشد فقرا وضعفا، وصفها رئيس البنك ديفيد مالباس بـ”المدمرة”، وهو ما قد يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية، لن تتردد مختلف أطياف المعارضة السياسية في توظيفها.
والمقلق في الأمر أن عجز الحكومات عن اقتراح حلول للأزمة، لا يعني أن لدى أحزاب المعارضة حلولا هي الأخرى تقدمها لشعوب باتت اليوم على حافة اليأس. كل ما يشغل المعارضة هو أن تقول للشارع “ألم نقل لكم؟”.
منطقة شمال أفريقيا، حيث كانت صفعة تلقاها شاب يبحث عن لقمة العيش على وجهه أحد أسباب ثورة “الربيع العربي” منذ 12 عاما، تبدو اليوم مرشحة لانتفاضات أخرى، سيكون رغيف الخبز سببا في انطلاقتها.
ما العمل إذا؟
المطلوب مصالحة اجتماعية يتخلى فيها الجميع عن الشعارات وتبادل الاتهامات، والمبادرة الطوعية لشد الأحزمة بحثا عن حل، لن يعثروا عليه حتما في الكتب الصفراء..