في الأردن عليك أن تكون حزبيا ولا تثق بالأحزاب!

في غمرة الضجيج حول تعديلات الدستور الأردني التي يُفترض أنها تهدف إلى تشكيل حكومات من أحزاب البرلمان، يظهر الهدف محشورا في زاوية المشهد السياسي وغير واضح حتى بالنسبة إلى الحكومة الحالية التي أقرّت التعديلات قبل إرسالها إلى مجلس النواب.
في أفق عشر سنوات على الأقل، ستكون لدينا حكومات برلمانية ولكن بسلطات أضيق. هذا بعد عقود من الحكومات “منزوعة الولاية” كما اعتاد الأردنيون تسميتها.
التعديلات الدستورية تعكس حالة من الحذر والتوجس لدى أجهزة الحكم إزاء الحكومات البرلمانية المنشودة، أكثر مما تشيع الارتياح أو تلبي الهدف من هذا التحول الذي دعا إليه المتظاهرون أيام الربيع العربي وطلبه الملك عبدالله الثاني وشكّل له لجنة موسعة، واندلعت على هامشه منذ شهور معارك كلامية وسجالات، وتبادل لكمات أيضا!
ومن حيث تقوم فكرة الحكومة البرلمانية أساسا على حياة حزبية فاعلة غير موجودة حاليا في الأردن، تعزز التعديلات الدستورية الجديدة القلق والريبة المعهودة لدى مؤسسات الحكم تجاه نشاط الأحزاب.
الأردنيون المدعوون إلى الانخراط في العمل الحزبي بتشجيع وتطمينات وضمانات متكررة من الملك والحكومة، ستكون لهم في المستقبل حكومة حزبية ذات تأثير محدود خصوصا في الشأنين الأمني والديني.
وسّعت التعديلات الدستورية سلطات الملك حين أبعدت الحكومة عن أي دور في تعيين مدير الأمن العام وقاضي القضاة ورئيس المجلس القضائي الشرعي والمفتي العام، بالإضافة إلى رئيس الديوان الملكي ووزير البلاط.
أهم ما تدافع به مؤسسة الحكم عن التعديلات التي منحت الملك صلاحية تامة بالتعيين في هذه المناصب دون توصية أو تنسيب من الحكومة، هو النأي بالشؤون الأمنية والدينية عن “تجاذبات” الأحزاب.
هذا النأي الذي يشي بالحذر أو الخوف من الأحزاب، يتغافل عن كون الحكومة المستقبلية متحزبة بالضرورة، أي أن الأحزاب هي التي يُفترض أن تحكم باسم الولاية العامة وتحت إشراف البرلمان.
تقزّمت شخصية الحكومة البرلمانية المطلوبة إلى مستوى لم نعد ندرك فيه الجدوى من تشكيل هكذا حكومات وأثرها الفعلي على توسيع المشاركة في الحياة السياسية ومشهد الحكم.
لا شيء غير هذا التبرير يقف خلف إضعاف تأثير الحكومة مقابل تعزيز صلاحيات الملك “المصون من كل تبعة ومسؤولية” والقائد الأعلى للجيش والمناطة به سلطة تعيين الحكومات، وفق الدستور الحالي الذي لن تشمله التعديلات بشأن هذه الأحكام.
رغم أن رئيس الوزراء والوزراء غير معفيين من مسؤولياتهم تجاه أوامر الملك وقراراته مهما كانت ولو لم تكن الحكومة طرفا في اتخاذها، فإن مبدأ “المسؤولية على قدر السلطة” سيظهر مهتزا إذا أراد مجلس النواب مساءلة الحكومة عن أداء جهاز الأمن العام مثلا أو دائرة الإفتاء.
وهذا يعني ببساطة شديدة أن الحكومات التي ننتظرها ونتجادل بشأنها أضعف من الحكومات الحالية التي فقدنا الثقة بها منذ زمن. وهو ما يعني أيضا تراجعا دستوريا عن السير باتجاه تعزيز المشاركة السياسية وإفراغا لعملية الإصلاح من محتواها.
ثمة “فترة انتقالية” طويلة حتى يصل الأردن إلى تشكيل الحكومات عبر أحزاب البرلمان وليس بقرار من الملك. تقول مؤسسة الحكم إنها تريد هذه الفترة لنشر الثقافة الحزبية وتشجيع الناس على الانضمام للأحزاب، لكنها بالتعديلات الدستورية تعيد نشاط الأحزاب إلى دائرة الارتياب والحذر.
ظلت التعديلات محور نقاش عام على مدى أشهر قبل أن تعتمدها الحكومة وتضيف عليها بناء على مقترحات اللجنة الملكية. وحين وصلت إلى البرلمان المكلف دستوريا بالمصادقة عليها أو رفضها أو تعديلها، طلبت الحكومة صفة الاستعجال في إقرارها. وكان لها ما أرادت.
لا تغييرات كبيرة أجراها مجلس النواب على التعديلات الدستورية، ولم يكن متوقعا منه أن يقوم بأكثر من ذلك، كما لا يعلق الناس عليه الكثير من الآمال بوحي من تجاربهم السابقة مع البرلمانات، وبسبب الضعف التمثيلي للبرلمان الحالي الذي اختاره حوالي ثلاثين في المئة فقط من الناخبين.
تقزّمت شخصية الحكومة البرلمانية المطلوبة إلى مستوى لم نعد ندرك فيه الجدوى من تشكيل هكذا حكومات وأثرها الفعلي على توسيع المشاركة في الحياة السياسية ومشهد الحكم.
لا يوجد اتفاق على مقومات الحكومة البرلمانية وملامحها وقدرتها على صنع القرار المسنود بإرادة شعبية. حكومة بشر الخصاونة نفسها لم تصل إلى فهم واحد بشأن الحكومة المنشودة على اختلاف تسمياتها، برلمانية أو منتخبة أو حزبية.
لم يكن مفاجئا أن يصف الخصاونة هذا الأسبوع الحكومات الحالية بما فيها حكومته بأنها “برلمانية”، على اعتبار أن مجلس النواب يمنحها الثقة، وهي بالتالي تبدو وكأنها تخرج من تحت جناح البرلمان!
هذا الوصف الجديد للحكومات يتناقض مع ما يراه وزير الشؤون البرلمانية والسياسية الذي قال في نفس اليوم إن الأردن لم تمر عليه بعد تجربة الحكومات البرلمانية حتى لو شهدت مشاركة واسعة من النواب، وذلك في معرض دفاعه عن التعديل الدستوري الذي يمنع توزير النواب.
أوضح ما تتسم به جملة التعديلات الدستورية هو تقليص صلاحيات الحكومة، حتى أن أحد النواب قال ساخرا إن وظيفة الحكومات باتت محصورة بإعلان ثبوت هلال شهر رمضان! لكن حتى هذه السلطة لم يعد للحكومة تدخل فيها بموجب التعديلات الدستورية الجديدة، وهي من صلاحيات المفتي العام الذي يعينه الملك ويقيله ويقبل استقالته دون استشارة الحكومة.