فيليب كينيدي باحث إنكليزي افتتن بأبي نواس ونجيب محفوظ

البروفيسور فيليب كينيدي يكشف أن المقومات الرئيسية والجوهرية التي وجدت في الموروث السردي العربي تشارك التقاليد الأدبية العربية بعض السمات الفطرية للسرد مع الآداب الأخرى.
السبت 2019/04/27
دراسة العربية أشبه بخوض بحر واسع

فاز البروفيسور البريطاني فيليب كينيدي، أستاذ دراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية في جامعة نيويورك أبوظبي، بجائزة الشيخ زايد للكتاب ضمن فئة “الثقافة العربية في اللغات الأخرى”، وذلك عن كتابه “الانكشاف في الموروث السردي العربي”، والصادر عن دار نشر جامعة أدنبره عام 2016. “العرب” كان لها هذا الحوار الخاص معه حول الأدب العربي كما يراه بعين الباحث.

كان فيليب كينيدي، الذي ينحدر من المملكة المتحدة، قد ألّف كتاب “الخمرية في الشعر العربي الكلاسيكي: أبو نوّاس والتقاليد الأدبية” 1997، إلى جانب كتابه الفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب ضمن فئة “الثقافة العربية في اللغات الأخرى” لهذا العام “الانكشاف في الموروث السردي العربي”، فضلاً عن دراساته العديدة حول الأدب العربي. ويشغل كينيدي حالياً منصب نائب العميد لشؤون البرامج العامة لدى معهد جامعة نيويورك أبوظبي، والمحرّر العام لـ“المكتبة العربية”.

في هذا الحوار معه يقول تعليقا على فوزه بالجائزة “لقد أمضيت سنوات عدة في التحضير لهذا الكتاب، وأشعر بسعادة غامرة كونه تمكّن من جذب بعض الاهتمام، عوضاً عن أن يقبع في صمت على أحد أرفف مكتبة الأبحاث. جميعنا نرغب في أن يكون للعمل الذي استثمرنا فيه الوقت والمجهود أثر في إحداث فرق في إدراك البعض بموضوع ما، مهما كان هذا الفرق صغيراً، ويسعدني للغاية أن اهتمامي الخاص بالأدب العربي في العصور الوسطى استحق المشاركة مع العالم. وغني عن القول، فإنني أشعر بالفخر والتواضع والامتنان لفوزي واقتران كتابي بهذه الجائزة المرموقة، والتي تحمل اسم الشيخ زايد، الذي طالما أعجبت بصفاته وإنجازاته، وذلك منذ أن خطت قدمي دولة الإمارات العربية المتحدة لأول مرة عام 1982”.

الافتتان بأبي نواس

حول بدايات تعرفه على الأدب العربي، وما لفت انتباهه ليتخصص فيه، يقول “استحوذ الأدب العربي على اهتمامي منذ أن كنت طالباً في جامعة ‘أكسفورد‘ في أوائل الثمانينات، حيث تضمن المنهج آنذاك العديد من الأعمال الأدبية ما قبل الحداثة، وصممت بكامل عزيمتي على قراءتها. وسرعان ما جذبتني إلى عالم جديد ومختلف، وقررت عندها مواصلة دراساتي لأوسّع مداركي حول هذا الأدب الذي بدأت بالتعرف عليه خلال الجامعة”.

وأضاف كينيدي “تابعت دراستي لأحصل على شهادة الدكتوراه في الشعر العباسي. ورغم اهتمامي بالأدب الأندلسي في البداية، وبخاصة الشعر الغنائي الساحر لابن زيدون والموشحات، لكنني وجدت نفسي بحاجة إلى استكشاف خلفيته الثقافية، لذلك اخترت العودة إلى حقبة زمنية أقدم وصولاً إلى بداية العصر العباسي، وحتى إلى ما قبل العصر العربي الإسلامي. وفي نهاية المطاف، اخترت إعداد رسالة الدكتوراه حول التقاليد الشعرية التي تجسدت في أعمال الشاعر أبي نواس”.

ودرس كينيدي خمريات أبي نواس والتقاليد الأدبية في العصر العباسي، الأمر الذي طرح تساؤلا حول رؤيته لهذا الشاعر وموقعه في الشعر العربي القديم والحديث؟ وهل بالفعل استطاع أبو نواس أن يحقق نقلة شعرية كبيرة في مسيرة الشعر العربي؟

فيليب كينيدي تحصل على جائزة الثقافة العربية في اللغات الأخرى عن كتابه "الانكشاف في الموروث السردي العربي"
فيليب كينيدي تحصل على جائزة الثقافة العربية في اللغات الأخرى عن كتابه "الانكشاف في الموروث السردي العربي"

يقول الباحث “أعتقد أن أبا نواس لا يزال اسماً مألوفاً ومرموقاً في العالم العربي. وما جذبني في شعره ليس الإبداع والبلاغة فحسب، إنما قدرته على إبراز جانب مجهول وغير مفهوم من الإرث العربي بالنسبة إلينا في الغرب. ويُحسب له تحقيق تأثير فريد في الأدب سواء في زمانه أو في الحقب اللاحقة. فما من شاعر عربي غيره أحدث فارقاً أكبر في أدب الأندلس من جهة، والأفكار الصوفية من جهة أخرى. وينبغي برأيي أن يكون موضع تقدير عظيم لعبقريته الفريدة وأعماله المتمردة. وتبرز أشعاره، التي نجح في جعلها إلى حد ما نوعا أدبيا بحد ذاته، جانبا مختلفا تماما من مزاجه الفني”.

ولفت كينيدي إلى أن اهتمامه بأدب العصور الوسطى وليس مثلا العصر الحديث أو غيره، وراءه ميل إلى أدب ما قبل الحداثة أكثر من الأدب الحديث وعلل ذلك بقوله “السبب الأساسي يعود إلى رغبتي في القيام بالأمور بالترتيب الصحيح واستكشاف أصول اللغة العربية، فإتقان اللغة عموماً يتطلب الإلمام بالأعمال في تلك الحقبة. ووجدت تحدياً كبيراً وسحراً خاصاً في قراءة اللغة العربية في القرون الوسطى، وأخبرني أساتذتي حينها أن دراسة اللغة العربية الفصحى كانت أشبه بخوض بحرٍ واسع من البحوث. وها أنا اليوم لا أزال مبحراً في عوالم هذا الإرث الأدبي الهائل. أما بالنسبة إلى الأدب الحديث، فلم يتوقف اهتمامي به على الإطلاق، بل توسع أكثر بهدف إثراء أبحاثي. وأولي اهتمامي بشكل خاص إلى تطور السرد على مدى المئة عام الماضية، ولدي شغف عميق بكتابات المبدع نجيب محفوظ وإلمام وافٍ بأعماله الكاملة، فقد كان مؤلفاً عبقرياً استحق جائزة نوبل في عام 1988 عن جدارة”.

السرد العربي

يكشف كينيدي أن المقومات الرئيسية والجوهرية التي وجدت في الموروث السردي العربي من خلال كتابه الفائز “الانكشاف في الموروث السردي العربي” تشارك التقاليد الأدبية العربية بعض السمات الفطرية للسرد مع الآداب الأخرى، مثل رواية القصة بسرد يحجب الحقائق والهويات في البداية ليكشف عنها تدريجياً ويحقق معنى هادفا وتأثيرا عميقا.

ويوضح “غالباً ما يكون الكشف في السرد ذا هوية خفية (وهذا ما يوضحه كتاب ’فن الشعر‘ لأرسطو). وكان أول ما لفت انتباهي إلى أهمية الإفصاح في اللغة العربية هو حقيقة أن أول نوع من القصص الخيالية المقبولة في إطار ثقافة الأدب، أي مقامات الهمذاني والحريري”.

ويتابع كينيدي “ويتمحور الاكتشاف في جميع المقامات عموماً حول التضليل؛ وهنا تبرز حقيقة مهمة هي أن اللغة البليغة لا تعبر عن الحقيقة الواضحة بالضرورة. ولكن ما استحوذ على اهتمامي أبعد من المقامات وفي الطرف المقابل من المعيار الأخلاقي، هو الأثر العميق الذي تركته قصة النبي يوسف عليه السلام، الذي يتعرف على إخوانه بعد أن تخلوا عنه بسنواتٍ طويلة، حتى لو كان بسيطاً غالباً، في نصوص القصص التي جاءت بعدها في مختلف الأنواع الأدبية، بما في ذلك الرواية الحديثة”.

وحول وجود مؤثرات واضحة تركتها تقاليد هذا الموروث على السرد العربي اليوم، يقول كينيدي “يمكن تتبع التطورات الأساسية في طبيعة وأشكال كتابات نجيب محفوظ عند دراسة مفهوم الكشف في رواياته. حيث اعتمد في أعماله الأولى ملامح من نظريات المعرفة التي ألفناها في بعض رومانسيات ‘ألف ليلة وليلة‘. وصورت رواياته في أربعينات القرن الماضي اكتشافات تراجيدية دوماً، وميلودرامية غالباً، حيث كانت تلك الحقبة فترة كتاباته الميلودراماية التراجيدية بامتياز، فيما جسدت ‘ثلاثية القاهرة‘ في الخمسينات سلسلة من الإفصاحات البطيئة والمؤلمة أبرزها اللحظة التي يدرك فيها بطل الرواية كمال في نهاية المطاف أنه حضر لتوه جنازة المرأة التي كان مغرماً بها طوال شبابه، لتأتي المأساة الإنسانية عندها بتأثير عميق ورصين”.

ما جذب الباحث إلى شعر أبي نواس ليس الإبداع والبلاغة فحسب، إنما قدرته على إبراز جانب مجهول من الإرث العربي

ويضيف “أما في حقبة الستينات، فكتب محفوظ روايات عن الاغتراب الاجتماعي، وهنا نكتشف عدم قدرة بطل الرواية على إدراك مأزقه الحقيقي إلا بعد فوات الأوان. وراح الكاتب يستكشف أنواعاً أخرى من السرد بدءاً من السبعينات، حيث تصدّع الهيكل السردي، ما أثر على نظرية المعرفة. إذ تجسد روايته العظيمة ‘مرايا‘ سلسلة من اللحظات المتقاطعة التي تروي بصورة صارخة ومؤثرة عملية التغيير، والتمزق، في المجتمع عبر خمسة عقود”.

ويؤكد كينيدي أن ما يواجهه الموروث السردي العربي والإسلامي بشكل عام من هجوم كبير حيث يعتبره البعض يزخر بالعنف والتطرف ومن ثم لا بد من غربلته وتنقيته، أمر ينم عن جهل، موضحا “إن الانطباع بأن تقاليد الكتابة العربية والإسلامية توحي بالعنف والتطرف ينمّ ببساطة عن جهل عميق بإرث غني وعظيم يستحق أن يحظى بانتشار أكبر وإلمام أوسع في جميع أنحاء العالم. وأجد أن الأدب العربي ما قبل الحداثة يتميز بطابع فريد من حيث عمقه وغناه وإنسانيته”.

15