فيليب جاكوتيه شاعر يحول المرئي إلى لامرئي

الجزم بأن الشعر موسيقى وصور بالأساس فيه نوع من التعميم، حيث قد يتجاوز الشعر كليهما لينحت له تجربة فريدة في عوالم المادة وما خلفها والمرئي واللامرئي. فالشاعر محكوم دائما بعوالمه الخاصة، عوالم شعوره وأفكاره وتجربته ورؤاه التي تحمل بصمته بالضرورة، وهذا ما يتجسد بجدارة في تجربة الشاعر الفرنسي فيليب جاكوتيه الذي بنى بدأب وصبر كبيرين عمارة شعرية متفردة، خاصة، لا تجد شراكتها إلا مع نفسه.
تتسم تجربة الشاعر الفرنسي من أصل سويسري فيليب جاكوتيه بالبساطة والعمق، سعيا لىنسج علاقات جمالية لرؤى الذات داخل العالم والطبيعة، حيث التواصل الروحي والجسدي المتأني والمتأمل مع الطبيعة ومفردات الحياة الحاضرة والغائبة.
هذه التجربة ارتقت لتضع شاعرها كواحد من أعظم الشعراء الذين جددوا الشعر الفرنسي، وتضيء هذه المختارات منها والتي ترجمها وقدم لها الشاعر والناقد العراقي شاكر لعيبي بعنوان “عمل الشاعر” حيوية توهج جمالياتها الفنية وحسها الوجداني، وقسم منها مستل من “أشعار: 1946 – 1967” الصادر في سلسلة “شعر، غاليمار 1977″، والقسم الآخر من مجموعات متفرّقة للشاعر.
الصيغ البلاغية
جاكوتيه مهموم بقضايا الشعرية الجوهرية، ممتلكا المعرفة الكبيرة والتواضع الجم الجدير بشاعر أصيل أفاد شعره من ترجماته
يؤكد لعيبي أن جاكوتيه شاعر من أهم شعراء اللغة الفرنسية، توفي في التسعينات من عمره. ولد في مدينة مودن السويسرية سنة 1925. درس الأدب في جامعة لوزان وانتقل للعمل في باريس. تزوّج سنة 1953 واستقرّ في مقاطعة دروم الفرنسية. شاعر أوّل، ومترجم من الطراز الرفيع. ترجم من الألمانية والإيطالية غوته وريلكه وغونغورا وهولدرلين وأنغاريتي وهوميروس، والكثير من الأعمال الروائية.
أصدر الشاعر العديد من المجاميع الشعرية منها “الجاهل، قصائد 1952 – 1956” 1957، “العتمة” 1961، “في ضوء الشتاء: قصائد” 1974، “أفكار تحت الغيوم، قصائد” 1983، “كرّاسة الخضرة” 2003، “هذا القليل من الضجيج” 2008، وهي كلها صادرة عن دار غاليمار. وأخرى عن دور نشر أخرى مثل “نار هادئة” 2007. كما أصدر العديد من الدراسات والبحوث والتأملات الشعرية، ليخط تجربة فريدة خولته ليتوج بالجائزة الوطنية الفرنسية للشعر، ثم جائزة غونكور للشعر وجوائز أخرى.
ويشير لعيبي في مقدمته للمختارات، الصادرة عن دار الدراويش للنشر بألمانيا، إلى أن جاكوتيه مهموم بقضايا “الشعرية” الجوهرية، ممتلكا المعرفة الكبيرة، والتواضع الجمّ الجدير بشاعر أصيل، ومترجم نادر أفاد شعره من ترجماته، ليوُسَمَ بميسم شخصيّ نادرا ما نلتقي به لدى شاعر معاصر. إنه مهتم أيضا، وبشكل ملحّ، بـ”عمل الشاعر” وحدود قدرات اللغة، وإمكانيات حضورها في الوجود ثم المساهمة في فك طلاسمه، مع ما يتبع ذلك من مشكلات صغرى ترتفع في عمل الشاعر إلى الدرجات الكبرى: فكرة البهجة “التي قد لا ترنّ مفردتها بالعربية كما رنّتْ لجاكوتيه: La joie”، الإمحاء عبر الموت، قدرات البصر، النظرة، نظرة الشاعر على استكناه العالم بضربة واحدة، وما إلى ذلك من قضايا ما يسميه لعيبي “بالطفيف”.
ويؤكد أن شعر جاكوتيه، بصفته شاعرا كبيرا، هو أيضا لعبٌ عارفٌ على جميع إمكانيات وإحالات اللغة ومرجعياتها: إنه مدقق كبير بالخفايا التي يشتغل عليها، بلاغيا ودلاليا، وهذا كما نعلم ليس حال شعرائنا العرب ويفيد درسا ضروريا لي أولا، ولنا جميعا، أنه يشتغل بضراوة على ما يسميه اللسانيون المعاني المتداعية، الشخصية: تلك التي تجاوِرُ وتفيد من المعنى القاموسي الأصلي.

الصورة تشكل أحد مراكز التوتر في عمل جاكوتيه إذا تظهر أحيانا مرفوضة بشكل صريح أو على العكس مطلوبة
وفي القصائد التي ترجمها لعيبي نجد مثلا أنه يستخدم المفردة L’effraie عنوانا لقصيدته، وهذه المفردة تشير إلى أحد أنواع البومة ذات الريش فاتح اللون “وتسمى البومة المصّاصة أو البيضاء”، وكان بإمكانه استخدام مفردة مألوفة أخرى، Chouette أو اسمها الكامل chouette effraie، لكنه فضّل هذه المفردة الوحيدة عارية، لأنها مستلهَمة من الفعل فَزَعَ (effrayer) وتحيل مباشرة ودون وسائط إليه، وبينها وبين مفردة الرعب (l’effroi) تعالقٌ صوتيّ صارخ، كي يوطّد دلالة ومشاعر الفزع والخوف من المجهول ومن الموت التي تبثها القصيدة.
ويضيف لعيبي “في قصيدة أخرى يستخدم في البيت الذي اجتهدنا بترجمته بـ ‘هي فقاعاتُ قوس القزح التي كنتُ أنامُ فيها!‘، التعبير ‘bulles d’Iris‘ حرفيا: فقاعات إيريس، الذي يدل على حذاقة عالية وإحالات إلى أكثر من مرجع واحد في اللحظة ذاتها، فإيريس بالأصل، وبالحرف التاجي الكبير هي ربّة قوس قزح ورسولة الآلهة عند اليونانيين، وهي تعني اليوم جملة أشياء: قوس القزح نفسه أو قزحية العين ‘الحدقة‘ أو نبات السوسن. عندما يقول حرفيا ‘أنام في فقاعات إيريس‘، ويكتب إيريس بالحرف الكبير فهو يريد الألوان الظاهرة على الفقاعات التي تحمل جدرانها المائية الهشة ألوانَ قوس القزح، ملمِّحا في الوقت عينه ومُدْمِجا برشاقة الأصل الأسطوريّ”.
ويتابع “الظاهرة تسمى أيضا بالتقزُّح اللونيّ. هذه الإحالات التي تسعى لخلق مناخ روحيّ ونفسيّ ومفهوميّ خاص، وتفرض على الترجمة خيارات جديدة غير متوقّعة، إذْ بدلا من ‘مروحة’ للمفردة (éventail)، أو مروحة ورقية أو يدوية، فضلنا استخدام الكلمة العامية لها ‘مِهَفَّة‘، لأنها أكثر انسجاما مع روح الهبّات السرية أو الخفيفة التي يلمِّح الشاعر إليها، ولأن كلمة مروحة قد تعيد التذكير بالمراوح الحديثة الآلية. الغريب أن هذه المفردة ‘مهفة‘ لا توجد في القواميس والمعاجم العربية رغم أنها مشتقة بشكل منطقي ووزنيّ صحيح كاسم آلة من الفعل ‘هفف‘، كما أنها على وزن مِحَفّة”.
ويرى المترجم أنه يمكن لأيّ شاعر استخدام صيغ البديع ومجازات البلاغة إما بطريقة محض لعبية شكلانية، أو من أجل المعنى الداخلي والتجربة الشعرية العميقة التي قد توفّرها له هذه الصيغ، كما في حالة المتنبي على سبيل التوضيح. الشعر المعاصر ليس ببعيد عن هذه القضية الحيوية. يُوْجِب الأمر في البدء معرفة وليس رفض البلاغة خبط عشواء، كما في بعض “التنظيرات” الحداثوية الحالية.
ويفيد جاكوتيه، على نطاق واسع، مما تضعه مجازات الأسلوب الفرنسية تحت تصرّفه كالجناس. فالجناس الناقص في العربية هو ما اختلف فيه اللفظان في عدد الحروف أو نسقها (ليل دامس، وطريق طامس)، مُستخدَمٌ في شعر جاكوتيه وفق سياقات الفرنسية (وله بها تسمية أخرى بالطبع) كما في جملته “se plie et déplie” التي يظل تجانُس الأصوات فيها فاعلا ودالا وشعريا، خاصة وأنه يشير إلى تناقض جوهريّ في فعلين وجوديين: الثني والبسط اللذين لا يخرجان في العربية من المصدر اللغوي نفسه ولا التصويت اللفظي عينه كما هو حال الفرنسية. ومثل ذلك mourant et morts: الأموات والميّتون. والأخيرون هم الفانون من البشر، هم المحتضرون حاليا بالنسبة إلى المفردة الأولى، والمتوفون بالفعل بالنسبة إلى الثانية، وهما يطلعان كلاهما من فعل الموت الفرنسي mourir مع اختلاف وضعية الحروف. وهذا المثال الأخير هو بدوره نوع من الجناس الناقص الذي ينجم عنه اختلاف طفيف أو كبير في المعنى بسبب الاختلاف في هيئة الحرف، مثل (خَلقا وخُلقا) في عربيتنا.
لا تُستخدم هذه الصيغ البلاغية في شعر جاكوتيه إلا من أجل هدف عميق، سواء على مستوى التصويت، أو على مستوى الدلالة التي بدورها تودّ إما إشهار الثنائيات الكبرى “الوجود والعدم، الحياة والموت، الظاهر والباطن”، أو إعلان تناقضات الوجود التي تطلع من مصدر لغوي بعينه أحيانا “الثني والبسط”، في مفارقة حقيقية يستثمرها شعر جاكوتيه.
المرئي واللامرئي
يؤكد لعيبي أن موضوعة الصور (Images) الواردة كثيرا في شعر جاكوتيه (وغيره من الشعراء الأوروبيين، خاصة ريلكه)، كما في بيته “أنا المُغطّي عينيه بالصور” تستحق تأنيّا، لأن الحمولة الدلالية لمفردة الصورة في العربية لا تخرج من المعين التأريخي والفلسفي الأوروبي. فهي تضرب في الأصل اللاتيني الذي يشير إلى التشابه والانعكاس والعلامة الخارجية والوجهة والفكرة وظلال الأموات والشبح والصدى، وقبله الأصل الإغريقيّ، الملتبس حسب البعض: masso الذي يعني تشكيلا وعجنا وما إلى ذلك، قبل وصولها إلى الحقل الفني كما نفهمها به اليوم، وكما دخلت في المعجم الفلسفي بصفتها تمثيلا ذهنيا لشيء أو شخص.
إن حضور مبدأ “المظهر” في قلب مفهوم الصورة يُستثمر لدى جاكوتيه أيضا، لتكون هناك مسافة بين مظهر العالم وجوهره، العين مغطاة بالصور، أي بالمظهر الخارجيّ الذي قد لا يُعبّر عن جوهر العالم اللامرئي. من هنا هذا التفريق في الفكر الفلسفي الأوروبي بين “المرئي” و”اللامرئي” كما أوغل جيل تولوز فيه تأملا، وكما يُفهم من تعريف بول كليه لفن الرسم “جعل اللامرئي مرئيا”. تقول كارين وينكيلفوس في كتابها “ريلكه، التفكير بالعينين” “تكرّست الفترة المتأخرة من عمل ريلكه لما أسماه ريلكه نفسه ‘تحوّل المرئي إلى لامرئيّ‘ وهي صيغة مشهورة جدا تُقنِّع المسألة أكثر من أن تلقي الضوء على خصيصة الصورة في أعماله المتأخرة. استنتج معظم النقاد أن التفكير في الفن، وخاصة في صور فن الرسم، لم يلعب سوى دور طفيف، حيث أن الشاعر كان قد أصبح أكثر اهتماما باللامرئي”.
ويوضح “مع ذلك، فعلى الصور يتوجّب أن يكون ‘عمل القلب‘ منصبّا. إنها ليست مسألة عدم رؤية بعدئذ، وإنما مسألة رؤية مختلفة. الشاعر لا يدعو إلى النظر قليلا، ولكن إلى البحث أكثر من ذلك. صيغة ‘تحويل المرئي إلى لامرئي‘ لا تستهدف التناقض بين مجالين غريبين بعضهما عن البعض الآخر قدر ما تقع في الإصرار على عملية التحوُّل. فمن هذا التحول، تتقدم ‘الهيئة‘ (Figur)، هذه الفكرة المركزية لشعر وشعرية ريلكه، المستعارة أولا من الفنون البصرية. تفكير ريلكه بصور الفن التشكيلي لا يتحدد في الحقيقة بصيغه الأكثر وضوحا: ذلك أن فعاليته الحقيقية تتكشف بالأحرى في النصوص التي تشكل نابضا أكثر سرية”.
لا تُستخدم الصيغ البلاغية في شعر جاكوتيه إلا من أجل هدف عميق سواء على مستوى التصويت أو على الدلالة
ويلفت لعيبي إلى أن فكرة “الهيئة” تعد مرة أخرى النقطة الحاسمة التي تتلاقى عندها كل هذه الأفكار في الواقع، لن تكون الصور صورا إذا لم تقاوم إلى حد ما المشروع الذي يهدف إلى إضاءة “معناها” وصولا لجعلها غير ذات جدوى.
ويرى إيفيليو مينانو في دراسته “ضرورة ورفض الصورة في شعر فيليب جاكوتيه” أنّ “من الواضح أن الصورة تشكّل أحد مراكز التوتر في عمل جاكوتيه. إذا كانت الصورة تظهر أحيانا مرفوضة بشكل صريح أو على العكس من ذلك، مطلوبة، فهي ليست مجرد عمل بلاغيّ بل هي عنصر أساسي لمشروع شعريّ مخصوص، لأن هذه الضرورة أو هذا الرفض مُتجذّران في الرغبة المزدوجة في الارتفاع نحو المطلق وعدم محو الأرضيّ في آن واحد. الشعر، والصورة خاصة، كونهما الأداتين المميزتين في هذا المسعى نحو اللامحدّد الذي يسعى للتوافق مع قبول الواقع الماديّ، فهما موسومان بعمق بفشل أو بنجاح هذه المحاولة، وكذلك موسومان بطبيعتهما ثنائية القطب إلى أقصى الحدود. وهذا الأمر، ليس فقط من خلال موقف محدد إزاء الصورة، ولكن أيضا من خلال الخصائص المخصوصة التي ستنجزها تحققاتها في الكتابة، وكل ذلك يُظْهِر الروابط العميقة التي تربط تصوُّرا وممارسة للصورة في الكون الشعريّ الذي تتسجّل فيه”.
ويبين لعيبي أنه بادئ ذي بدء، الصورة موضوع رفض. هذه هي نتيجة رغبة الشاعر في التوافق مع عالم الأرض “الملموس”، مهما كانت عيوبه، وليس الغرق في وخزة من شأنه محوه في النهاية. يحاول الشاعر مقاربة الأشياء من خلال تقديمها دون زخارف، دون بهرج زائف، كما هي، كما هي مُسمّاة بكل بساطة. ولقد وصل الشاعر إلى هذا الاستنتاج بعد أن لاحظ أن الصورة لا قدرة لها على إظهار ما أصابه من الأشياء. إن محاولة التسمية الصريحة البسيطة أمر مفهوم بشكل أكبر لأن الشاعر يدّعي أنه يرتفع إلى مقام غير المحدود في قبول كامل للعالم الماديّ. من ناحية أخرى، فإن القوة المغوية للصورة قوية لدرجة أنها تستطيع ليس فقط تشويه الخشية من الأشياء، بل تجعلنا نعتقد أننا اخترقنا أيضا الواقع الخارجي ووصلنا إلى نسق التعالي.
الصور هي حلول سهلة للشاعر عند مواجهة النداء الداخليّ الذي يهجسه؛ إنها تفتح طرقا زائفة لتفسيرنا للواقع، علاوة على ذلك، إنها تشوهه. كل هذا دفع جاكوتيه إلى الحلم بشعر دون صور، وهي الحصيلة الفائقة في نظره لفن الهايكو اليابانيّ الذي يَظْهَر تأثيره قبل كل شيء في مجموعتيه الشعريتين “الجاهل” و”هواءات”.
ثمة رفض إذن للكلام والصورة لصالح مقاربة مزدوجة أكثر حدّة للواقع ولإدراك اللّامحدود، كما لو كان هناك تباعد أساسيّ بين الكلام الشعريّ وهذا الإدراك. مفارقة تقفز للذهن حالما نواجه النظرية بالتطبيق: يَصِفُ جاكوتيه الصورة، لكنه يوضح من خلال كتاباته أنه لا يستطيع الاستغناء عنها. إنه يرفض صراحة هذا النهج، لكنه يستخدمه باستمرار، حتى لو ذلك يعني شعوره أنه فريسة لتأنيب الضمير.
من المختارات كتابُ الأموات
1
هذا الذي دخل في ملكوت الزمن لن يطلب بَعْدُ المقصورات ولا الحدائق لا الكتب ولا القنوات ولا أوراق الشجر ولا أثر اليد الأكثر اختصارا والأكثر رقّة في المرآة:
عين الإنسان، في هذا المكان من حياته، قد تستّرتْ،
ذراعه من الضعف كي تستولي وكي تغزو،
إنني أنظرُ إليها، [هي التي] تنظرُ مبتعدا
كل ما كان يوما عملها الوحيد ورغبتها العذبة…
أيتها القوّة المُستترة، لو كنتِ موجودة، ألتمِسُكِ
بأن لا ينغمرَ في هلع أخطائه
بأن لا يردّدَ كلمات الحبّ المُصْطَنع
بأن تنتفضَ قدرته البالية للمرة الأخيرة،
وأن تلتمّ، ولتغمره سكرة أخرى!
كانت معاركة الأقسى وميضَ طيور خاطف
معاركه الأخطر مجرّد غزوات من المطر حبيباته لم يُهشِّمنَ البتة سوى القصب مجده يَنـْقشُ على حائط خَرِب بالأحرى اسما من سخام….
*
ليدخل الآن مرتديا تلهُّفه الوحيد إلى هذا الفضاء [الصائر] أخيرا على سعة قلبه
ليدخل، هو وهيامه الأوحد بكل عِلْم، في اللغز الذي كان الينبوع المظلم لبكاءاته
لم يُمنح له أيمّا وعد
سوف لن يُترك له أيّ ضمان بَعْدُ
لا يمكن بَعْدُ لأيِّة إجابة أن تصِلَ إليه لا مصباحَ في يد امرأة كانت معروفة من قبل
يضيء السريرَ أو الجادةَ الممتدة لينتظرْ إذنْ وأن يبتهج فحسب،
مثل الغابة لا تتعلم أن تُبْهر إلا عند الهزيمة.
2
أيّها الصاحبُ الذي لم يستسلم للهموم،
لا تترك الخوفَ يجرِّدُك من أسلحتكَ في هذه المصادفة:
لا بد من وسيلة للانتصار حتى هنا. مع الصكوك والرايات من دون شكّ
مع الأسلحة الباهرة والأيدي العارية
وحتى مع النواح والتمنيات ومع الكلام [الذي كان] محفوظا
اختصرْ كينونتكَ كلها في عينيكَ الضعيفتين:
اللبلابات ما زلنَ واقفات في ضوءِ نهايةِ الخريف،
يرتجفنَ قرب النهر، ورقة طيّعة تهبط بعد ورقة
وهي تضيء تهديد الصخور المرتبة إلى الخلف
يا ضوء الزمن القويّ غير المفهوم
أيتها الدموع، دموع الفرح على هذه الأرض!
***
روحٌ خاضعٌ لأسرار الحركة
يمرُّ محمولا في نظرتك الأخيرة المفتوحة،
مرَّ أيها الروح العابر الذي لم يوقفه ليلٌ
لا الوجد ولا المعراج ولا الابتسامة
مُرّ: ثمة مكانٌ بين البراري والغابات
ثمة نيران [تنتمي] لمن لا يستطيع الظلُّ أن يختزلهم.
حيثما تغوص النظرة وترتجّ مثل حديدة الرمح
فإن الروح يتغلغل مُبْهمَا ويجدُ مكافأته.
خُذ الطريقَ الذي أشارتْ إليكَ به حيرة قلبكَ
دُرْ مع الضياء، واظبْ مع المياه اجتزْ مَمرّ الطيور الذي لا يُقهر
ابتعدْ: ليس من نهاية إلا في الخوف المقيم.
3
ليقدَّم قربانُ الفقير إلى الفقير الميّت ساقٌ مهتزةٌ وحيدةٌ لقصبة مقطوفة على أطراف ماء سريع، كلمة وحيدة نطقتها تلك التي كانت النَّفَس، بالنسبة إليه، الغابة الندية والشرارة ذكرى ضوء في قمة الهواء… وبهذه الضربات الثلاث الخفيفة لينفتح له الفضاء من دون فضاء حيث ينمحي كل عذاب الوضوح من غير وضوح [لذاك] الجانب الذي لا يمكن تخيُّله.