فيفيان الصايغ.. فنانة سورية تشوه شخوصها وتواسيهم بحثا عن نجاتهم

فنانة تطرح أسئلة الحياة بحرية تروّض عتمة الواقع وصدماته.
الأحد 2022/01/09
عوالم مفتوحة على المفاهيم السريالية

تنبض لوحات الفنانة التشكيلية السورية فيفيان الصايغ بنوع خاص من الحياة التي تتأتى من التلاعب بالألوان والمدارس الفنية وحتى بالشخصيات المرسومة التي تشوهها الفنانة لتخلق منها حياة أخرى، حياة لها رسائلها ومعانيها الوجودية والنفسية والفكرية، فلا تتوقف عند حدود القضايا النسوية، وهي التي تملأ لوحاتها أنوثة، بل تذهب أبعد إلى آلام البشر الذين تلتقطهم من واقع مأزوم.

في حضورها الفني قوة ومن قوتها الفنية تمرّد ناضج صارخ بالحلم بالحياة، هي التشكيلية السورية فيفيان الصايغ، الفنانة التي تستدرجك في أعمالها بشكل معاصر وأصيل لتؤكّد حضورك في التمازج البصري المطروح مع مفاهيمها ولتتفاعل مع أعمالها الفنية وأنت تطرح رؤاك الأبعد في الفهم والصياغة والقراءة والتواصل.

فقد آثرت أن تحمل تلك المفارقة الحسيّة العميقة حتى تُمكّنها من أن تخلق من حكاياتها البصرية عمقا تفاعليا لا يقف عندها بل يستمر عبرها في غنائية سردية وتمازج كثيف القراءات.

الأحاسيس والرسائل

فيفيان الصايغ: لا أعتقد أن الفن مُجرد ألوان نعبث بها بل هو مسؤولية تقع على عاتق الفنان لإيصال رسالته

عبّرت الصايغ عن الواقعي بتصورات معاصرة وكثّفت حواس التفاعل الجماعي معها لتحيك منها نماذج وصف وسرد ومجازات تحمل فيها علاماتها المتفرّدة التي استطاعت أن تتماهى معها لتفكيك المخلفات الباقية والآثار والاستشرافات الساعية للبحث عن مكان ما تحت شموس الإنسانية بأمل في أن القادم أجمل.

 لا تنتسب الفنانة لمدرسة واحدة ولا تتكئ على مصدر منفرد لأنها تؤمن بالتجريب بالمواكبة والبحث الذي يلامس حواسّها وشغفها واندفاعها، فهي تعمل انتصارا لذاتها واشتغالا على الإنسانية في مراياها التي تعكس تناقضات الأحاسيس المتداخلة عندها.

تلك الأحاسيس التي جرّدتها وفكّكتها وكثّفت فيها المعنى بعناصرها الفنية فانتشلتها من السطح وغاصت بها في العمق الأعمق من تفسير الجوانب الحسيّة الفردية وتأثير انعكاساتها الجماعية.

 يبدو التعبير البصري عن تناقضات الحرب والسلام بحثا حثيثا عن الثوابت الإنسانية التي حاولت تركيزها في فنها الذي تقول عنه “لا أعتقد أن الفن مُجرد ألوان نعبث بها بل هو مسؤولية تقع على عاتق الفنان لإيصال رسالته ضمن أي عمل يقدمه وأنا شخصيا يغريني العمل التشكيلي عندما أقف أمام هذا السطح الأبيض من القماش مع ألوان الأكريليك لتنفيذ عمل تشكيلي ذي بعد إنساني، الفن نبض يتطلب الاستمرارية والتطوير خاصة مع تطور مفهوم الفن نفسه، لذلك أحاول بأبسط الأدوات إيصال أفكاري بمنجز مفاهيمي أو تركيبي أو حتى بأعمال الديجيتال لأقدم عملا غير تقليدي قادر على أن يولّد عند المتلقي الأسئلة ويدفعه لتحليل العمل بما يناسب ثقافته ومزاجه مع المحافظة على الجانب الروحي للعمل ولا أعتقد أن ريشتي ستقف عند أسلوب معين لأني دائمة التجريب والبحث والتجدد”.

تشويه رمزي

لوحات تولد إحساسا عاليا بالخوف والحيرة

 تحيك الصايغ من ذاكرتها حكايات باقية وقصصا تجسّد الواقع وتتجاوز عتمته بنور الخيال وبتدفق الضوء، تعبّر عنه بشكل جمالي يفوح منه عطر امرأة منبثقة من تاريخ وجغرافيا وأسطورة أنثوية التكوين دائمة الحركة والبحث عن عناصر الحياة المتكاملة.

فأساليبها المثيرة ودهشتها المستمرة وحيرتها وإحساسها بتفاصيل التعايش العام وعواطفها الخاصة وكيانها المتمازج مع واقعه، هي تراكمات حملت رسائلها الفنية والإنسانية وفق المنهج الفكري لفلسفتها البصرية التي تمكنت من أن تجذب المتلقي، لأنه وكما تقول “رسم المرأة كرمز للوجود الإنساني يحمل قيمة جمالية وموضوعية بعيدا عن إغراءات الجسد خاصة وأن توظيفاتها تتعدى الشكل أو الجسد نحو الجمال والقوة والعطاء”.

تحمل فيفيان في تجربتها تصورات مُبتكرة ورؤى متجدّدة استلهمتها من الواقع فهي تجمع التعبيرية والواقعية والسريالية والمفاهيمية وتستثير منها زواياها لتضيء معها أجزاء من كينونة الإنسان، خاصة وأنها تقدّم مواضيعها بشكل كامل ولكنها تحجب ملامحه وأجزاء من حضوره وكأنها تخلق بعضا من الإثارة لخدمة سردها البصري من غموض الحالات وتشتّت الوجوه، فتندفع بها لترمّم الشرود المُحتفى به في ثورتها اللونية الصاخبة التي تتفاعل مع كل إحساس بطريقتها بين تكثيف الشحوب في تدرجات اللون الأصفر وتداخله مع العلامات في الخطوط والخدوش والخربشات وبين الألوان الداكنة وهي تصارع ذاتها داخل كل فكرة ليتبلور منها النور الدافق في تجليات موقفها البصري الصادم وكأنها تستعيد معه ذاتها أو تستنطق جوانب أكثر تعبيرا في كوامنها النفسية.

الفنانة تطرح كل تلك التراكمات المتداخلة بكثافة وأنوثة تعبق بالحياة التي يتشبث بها الواثق من ذاته الإنسانية

فبين حجب الرأس وتغطية العينين أو إغماضها وبين بتر الأطراف تحاول فيفيان أن تعكس شخوصها من حالات الواقع لتعبّر عن الصمت والجمود عن انعدام الحركة وسط ضجيج الضيق وانعدام الأفق وتداخل فكرة الحضور والانتماء وانعكاس تداعياتها على مراياها ومنها تتشظى على مرايا المتلقي الذي يستقبلها بوعيه المنتمي للأرض والواقع والأحداث فتضفي عليه إحساسا عاليا بالخوف بالحيرة بالضياع بالبحث عن الذات المشرّدة في واقعها الخالي من منطق التعايش والمعايشة فينتفض لمواقفه ويحمل حقيقته وأحلامه إلى نوره الباقي وأمله المستمر.

لأنها في لوحاتها ورغم كل ذلك التشويه المقحم في عوالم الشخوص لا تلغي المواساة الداخلية بينها وبين الأشخاص في رحلة تتوازن ذاتيا لتبحث عن توازنها الحسي العام في تلك اللمسات أو في تماس يفرض التلاحم بين الشخوص عن طريق الخطوط والألوان بمختلف تلطيخاتها واقتحامها للفراغ مع تماس يربطها مع النقاط وعلامات تشير في دوائرها للزمن للوقت للحاضر الذي أثّر فيه الماضي وللماضي الذي انتصر عليه المستقبل بصدامية التهمت الأحلام وهي تسحق الزمن في تراكمات الواقع المرير.

 فمن خلال الوقت وعقارب الساعة ورمزيات التصورات الهلامية لذلك الوقت تلك التي تعيد المتابع إلى عوالم مفتوحة على المفاهيم السريالية في التعامل مع الزمن لتحمل رؤاها وآمالها العريضة وهي تشكّل روحها داخل العمل بحيوية صامدة عازمة على الاستمرار والسعي أبعد في كل التداخلات الحسية تقول “أسعى من خلال أعمالي لأن أوثق الواقع المليء بالمتناقضات وأجسد حالة التوتر الدائم التي يعيشها الإنسان وهو يقف وجها لوجه أمام الدمار والموت والتعذيب والوحدة، لذلك أرسم الشخوص بملامح وأعضاء غير مكتملة في أغلب الأحيان”.

ترويض الصدمة

شخصيات تحكي معاناة الإنسان
شخصيات تحكي معاناة الإنسان

يعتمد أسلوب العمل الذي تقدّمه فيفيان في درجاته الأولى على الطرح الفني ومعانيه النفسية والاجتماعية والحسية والفنية والجمالية بشكل يفكّك ويدمّر ويبني ويرمّم ويحتوي وينتصر للصورة الصادمة وللفكرة المنتفضة التي تريد تقديمها حسب فلسفتها وهي تستثير كل أسلوب وتقنية وخامة تختارها.

ففي العمل التركيبي تحاول استنطاق حواس المتلقي، وفي التعبيري تبحث عن الألم والمعاناة في تقاربها الصادم الداكن، وفي عملها الواقعي تفكك الحواس، تفعل كل ذلك بحرفية أنثى تجيد استغلال حواسها لتطفو بأكثر جمالية وأعمق حضورا وتميّزا حتى تُشعر المتلقي بالألفة وبأنه جزء من العمل نفسه فيتلقاه بحواسه وأفكاره ويتفاعل معه حسب ما يخزّن في ذاكرته من أحداث.

وترى فيفيان في تجربتها أن لذاكرة الروح انكساراتها ولثناياها ألوانا تستفز من يبحث عن السكون أن يتوغّل في عوالمها وفي الفضاءات التي تروض فيها الفراغ بين اتساعه لتكثيف حضور الرمز وعلاماته وتوظيف المعنى في تلاوين السجع الموجه بين المعنى والكلمة حتى تتكوّن من جديد أكثر حضورا وأعمق في قوة الحياة وحقيقة الوجود والإنسانية الطافحة بالأمل وهي ترشح ألوانا تحاول رغم كل العتمة الإشراق.

فرغم الدمار العميق الذي دعمته الحرب في سوريا ورغم التحول الذي قاد للانقسام والتشرد واللجوء والهجرة والتشتت والصدام وتراكم الخوف والحيرة، ركزت الصايغ علاماتها في الملامح في الرموز فبين سلم وغراب بين خيوط وأسلاك وبين مفاتيح وأقفال وبين حروف وخربشات اكتشفت أن التناقض كفيل بترويض الصدمة وأن الحالات قابلة للترميم وأن الخدوش ستنتهي إلى ندوب تعمّق الإنسانية لتتجاوز الوجع واحتمالاته التي تروّض المجهول وترمّم الطفولة وألعابها المكسورة لتصمد بتفاصيلها الممزّقة الصامدة في أرضها على البقاء.

فهي تطرح كل تلك التراكمات المتداخلة بمحبة كثيفة وأنوثة تعبق بالحياة تلك التي يتشبّث بها الواثق من ذاته الإنسانية رغم كل الأحداث التي تشوّهها، فهي تقدّمها بشكل يتجاوز السطح نحو عمق المشهد الآخر للفكرة للصورة التي تحاول من الصدمة تجاوز التكلّف المباشر للفكرة.

Thumbnail
Thumbnail
Thumbnail
13